سورة الفرقان 025 - الدرس (10): تفسير الأيات (045 – 054)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الفرقان 025 - الدرس (10): تفسير الأيات (045 – 054)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الفرقان

New Page 1

تفسـير القرآن الكريم ـ سـورة الفرقان- (الآيات: 045 - 054)

18/09/2011 16:47:00

سورة الفرقان (025)
الدرس (10)
تفسير الآيات: (45 ـ 54)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس العاشر من سورة الفرقان .
 
الآيات الكونية تبين لنا طريق معرفة الله سبحانه وتعالى :
      
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)﴾
(سورة الفرقان)
حينما تأتي الآيات الكونية ، يكون هذا إشارةً إلى أن طريق معرفة الله سبحانه وتعالى التأمُّلَ والنظر في هذه الآيات ، فبعد الحديث عن الكفر ، وعن النفاق ، وكيف أن الإنسان يتخذ إلهه هواه ، وكيف أن الشهوة تقوده إلى هلاكه ، بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى الطريق إليه ، طريق معرفته ، فيقول الله عزَّ وجل :
 
﴿ أَلَمْ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
هذه الهمزة حرف استفهام ، وقد بيَّنت لكم من قبل أن الاستفهام في اللغة معناه طلب العلم بمجهول ، تقول : كم اشتريت هذا الكتاب ؟ لكن الاستفهام في اللغة العربية قد يخرج عن معناه الأصلي إلى معانٍ كثيرة تزيد عن عشرين معنىً ، من هذه المعاني الاستفهام الطلبي ، أي :
﴿ أَلَمْ تَرَ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
أي انظر ، أي ره ـ راء ، هاء ـ انظر إلى ربك كيف مد الظل ، فهذا استفهامٌ طلبي .
 
الله سبحانه وتعالى يحضنا على أن ننظر ونتأمل ونفكر :    
 
شيءٌ آخر ، الله سبحانه وتعالى يحضنا على أن ننظر ، وفي آيات أخرى بشكلٍ واضحٍ صريح يقول الله سبحانه وتعالى :
 
﴿ فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)
( سورة عبس )
وقال :
 
﴿ فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)
( سورة الطارق )
وقال أيضاً :
 
﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(101)
 ( سورة يونس )
وهذه الآية :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
أي ره ، أي انظر ، تأمل ، فكر ، دقق ، لا تجعل الحياة تستهلكك استهلاكاً رخيصاً ، لا تجعل حياتك طعاماً وشراباً ، قالوا : الحيوان يعيش ليأكل ، والإنسان العاقل يأكل ليعيش ، أما المؤمن يعيش ليعرف الله عزَّ وجل ، فبين أن يعيش ليأكل ، وبين أن يأكل ليعيش ، وبين أن يعيش ليعرف الله سبحانه وتعالى ، فرقٌ كبير ، فلذلك الإنسان العاقل لا يجعل عمله ؛ مهنته ، حرفته ، وظيفته ، لا يجعل كسب المال يستهلكه استهلاكاً رخيصاً .
 
القرآن لكل زمانٍ ومكان وفيه دعوة إلى التفكر والتأمل وهذا هو طريق الإيمان :
 
من معاني قوله تعالى :
 
﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22)
( سورة فاطر )
هناك من جعل شهوته قبراً له ، هناك من جعله عمله قبراً له ، هناك من أصبحت حياته رتيبةً لا معنى لها ، طعامٌ وشرابٌ وراحةٌ ومتعة ونوم ، إذا أصبحت الحياة رتيبةً ، إذا استهلك الإنسان عمره استهلاكاً رخيصاً ، إذا فكَّر في وقته ، إذا أدرك لحظته من دون أن ينظر إلى ما سيكون فهو إنسانٌ أحمق ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأمَانِيَّ)) .
 [ سنن الترمذي عن شداد بن أوس ]
فهذه دعوةٌ من الله عزَّ وجل ، الله سبحانه وتعالى يدعونا جميعاً ، لأن هذا القرآن لم يكن لزمن النبي عليه الصلاة والسلام ، بل هو لكل زمانٍ ومكان ، ونحن معنيِّون بهذه الآية ، انظروا إلى الله عزَّ وجل كيف مد الظل ، هذا هو المعنى ، دعوةٌ إلى التفكر ، دعوةٌ إلى التأمل ، هذا هو الطريق الموصل إلى الله عزَّ وجل ، هذا هو طريق الإيمان :
 
﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ(6)
( سورة الجاثية )
لكن :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
 
الكون بشكلٍ أو بآخر تجسيدٌٍ لأسماء الله الحسنى :    
 
الله سبحانه وتعالى لا نستطيع أن ننظر إليه ، ربما وعقيدة أهل السنة والجماعة أن المؤمن يوم القيامة في الجنة ينظر إلى الله عزَّ وجل ، وبعض الأحاديث الشريفة تؤكِّد أن الإنسان ينظر إلى الله نظرةً يغيب معها خمسين ألف عام من نشوة النظرة ، يؤكد هذا قول الله عزَّ وجل :
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)
( سورة القيامة )
وأكبر عقابٍ يعاقب به المقصِّرون :
 
﴿ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ(15)
( سورة المطففين )
وقال :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
إذاً حينما يدعونا الله عزَّ وجل أن ننظر إليه في الدنيا ، أي يدعونا أن نراه رؤيةً قلبية ، قد تقول : رأيت الله أكبر كل شيءٍ ، هل هذه الرؤية بصريةً ، هل هذه الرؤية بصريةٌ أم قلبية ، إنها رؤية قلبية ، رأيت العلم نافعاً ، ربنا سبحانه وتعالى يدعونا أن ننظر إلى عظمته ، إلى قدرته ، إلى حكمته ، إلى لطفه ، إلى أسمائه الحسنى من خلال الكون ، لأن الكون بشكلٍ أو بآخر تجسيدٌٍ لأسماء الله الحسنى .
 
هناك أدلة كثيرة على قدرة الله ولطفه وحكمته من خلال الكون :    
 
هناك ألف دليل ودليل على قدرة الله من خلال الكون ، هناك ألف دليل ودليل على لطف الله من خلال الكون ، هناك ألف دليل ودليل على حكمة الله من خلال الكون ، إذاً ربنا سبحانه وتعالى يقول : من أجل أن تطيعوني يجب أن تعرفوني .
قد تحدثت في الخطبة اليوم : أن العبادة التي هي علة وجودنا على وجه الأرض بل هي غاية وجودنا ،  إنما هي طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية أساسها معرفةٌ يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية ، هكذا ، إذاً من أجل أن نطيع الله طاعةً طوعية ، من أجل أن نحبَّه محبةً قلبية ، من أجل أن تنتهي بنا هذه الطاعة وهذه المحبة إلى سعادةٍ أبدية يجب أن نعرفه ، ولا طريق إلى معرفته إلا أن نتأمَّلَ في خلقه ، لأن طبيعة الإنسان لا تستطيع أن ترى الله عزّ وجل ولكنها ترى آثاره ، ترى آثار قدرته ، وآثار حكمته ، وآثار رحمته ، إذاً ربنا سبحانه وتعالى حينما يدعونا إلى أن ننظر إليه ، ننظر إلى أسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى من خلال الكون :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
وكلمة الظل ولا سيما في الجزيرة العربية توحي بالرحمة ، توحي بالنِعمة ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) .
 [ صحيح البخاري عن أبي هريرة ]
 
امتداد الظل دليل حركة الأرض حول نفسها ودليل كرويتها :
 
إذاً :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
هنا آيةٌ دقيقةٌ جداً دالةٌ على عظمة الله عزَّ وجل ، هذا الظل ، اغرس قضيباً في تربةٍ ما ، وراقب ظل هذا القضيب ، اغرسه وقت الظهيرة ، لا ظل له ، تزول الشمس عن كبد السماء يمتد له ظلٌ قصير ، وما يزال هذا الظل يمتد ويمتد ويَمتد ، إلى أن يصبح مثل طول القضيب ، ثم يمتد ويمتد إلى أن يصبح مِثْلَيْه ، وحينما يصبح الظل مثليه فهذا وقت العصر ، على أرجح الأقوال ، ويمتد هذا الظل ويمتد ، ما معنى يمتد ؟ معنى يمتد أن الشمس تتحرك حركةً ظاهرية ، وإذا تعمَّقت فإن الأرض هي التي تدور ، ويكفي أن يمتد الظل لتعرف أن هذه الأرض التي نحن عليه تسبح في الفضاء ، هذا هو الاستنباط ، بهذه الطريقة ترى أن السماوات والأرض في قبضة الله عزَّ وجل .
كيف يمتد الظل لولا أن الشمس تتحرك ؟ أو لولا أن الأرض تتحرك ؟ لا بدَّ من حركة إحداهما ، بالعين المجردة نرى الشمس تتحرك ، وبدراسة واقع الأرض والشمس والقمر نرى أن الأرض هي التي تتحرك ، إذاً امتداد الظل دليل حركة الأرض ، هذه واحدة .
شيءٌ آخر ، امتداد الظل دليل كروية الأرض ، لو أن الأرض مكعبة الشكل لجاء الظل فجأةً واختفى فجأةً ، لأن هذا الشكل المكعب له حروف ، ضع مكعباً أمام منبعٍ ضوئي وحرك المكعب ، يأتي الظل دفعةً واحدة ويختفي دفعةً واحدة ، أما أن يمتد الظل رويداً روَيداً فهذا دليل أن الأرض كروية الشكل :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
هنا لم يقل الله عزَّ وجل : ألم تر إلى الله ، ولا ألم تر إلى المسيِّر .
 
أساس نظام النبات الليل والنهار والفصول الأربعة :    
 
قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
إن دورة الأرض حول نفسها ينشأ عنها الليل والنهار ، ودورة الأرض حول الشمس مع ميل المحور ينشأ عنها الفصول الأربع ، ولولا الفصول الأربع ، ولولا الليل والنهار لما أكل الإنسان لقمةً من طعامٍ أو شراب ، لأن أساس نظام النبات الليل والنهار والفصول الأربع ، إذاً من الذي حرَّك الأرض حول نفسها ؟ أدارها حول نفسها ؟ من حركها حول الشمس بسرعةٍ تزيد عن ثلاثين كيلو متراً في الثانية ؟
نحن في هذا الدرس إذا أمضينا ساعةً في شرح هذه الآيات معنى ذلك أن الأرض تسير ، هذا شيء بديهي ، من أولويات علم الفلك ، الأرض تسير ثلاثين كيلو متر في الثانية ، ضرب ستين في الدقيقة ، ضرب ستين في الساعة ، أي مئة وثمانية وثلاثين ألف متر تقطع الأرض ونحن في هذا المسجد ، بهذه الساعة بالذات :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (45) ﴾
(سورة الفرقان)
امتداد الظل دليل حركة الأرض حول نفسها ، ودليل كرويتها .
 
الشمس هي دليل وجود الظل ولولاها لما كان الظل :    
 
قال تعالى :
﴿ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا (45) ﴾
(سورة الفرقان)
لو شاء الله لجعل الظل ثابتاً ، وإذا جعل الظل ثابتاً أي جمَّدَ حركة الأرض ، وإذا جمد حركة الأرض انتهت الحياة من على سطح الأرض ، لأن الشمس إذا واجهت وجه الأرض الأول ارتفعت الحرارة إلى ثلاثمئةٍ وخمسين درجةً فوق الصفر ، وفي هذه الحرارة تستحيل الحياة ، أما الوجه الآخر البارد ، فإن الحرارة تنخفض إلى مئتين وخمسين درجة تحت الصفر والحياة أيضاً مستحيلة ، إذاً يكفي أن يصبح الظل ساكناً لا يمتد لتنتهي الحياة .
شيءٌ آخر حركة الظل حركةً لطيفة ، أنت إذا نظرت إلى أشعة الشمس أو إلى ظل الأشياء ترى الظل ثابتاً ، فإذا تشاغلت فترةً من الزمن تراه قد انتقل من مكان إلى مكان ، كعقارب الساعة تراها واقفةً متحركة ، واقفةً إذا نظر إليها ، فإذا غبت عنها فترةً زمنية محدودة رأيتها في مكانٍ آخر ، وهذا من لطف الله عزَّ وجل ، إذاً امتداد الظل دليل حركة الأرض حول نفسها ، وامتداد الظل دليل كروية الأرض ، فلو أنها مكعَّبة لظهر الظل فجأةً واختفى فجأةً :
﴿ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ﴾
(سورة الفرقان)
لولا الشمس لما كان الظل ، الأصل في الفضاء أنه ظلامٌ مستمر ، تأتي الشمس لتُلْقِيَ بنورها على سطح الأرض ، إذاً الشمس دليل وجود الظل ، ولولا الشمس لما كان الظل، هذه آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته .
 
زيادة سرعة الأرض بلطف شديد وتباطؤها بلطفٍ شديد يجعل الحياة مستمرة عليها :
 
الإنسان لا ينبغي أن يمر هكذا ؛ أن يرى الشمس والقمر ، أن يرى النجوم ، أن يرى الأبراج ، أن يأتي عليه صيفٌ وشتاءٌ وربيعٌ وخريف ، أن تأتي عليه برودةٌ وحرارة ، جوٌ رطبٌ وجوٌ جاف ، أمطارٌ وثلوج ، وهكذا كأن عقله مُعَطَّل :
 
﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(101)
 ( سورة يونس )
دورة الأرض حول الشمس من آيات الله العظيمة ، بل إن حركة الأرض حول الشمس ترسم مداراً إهليلجياً بيضويَ الشكل ، وتختلف أبعاد هذا المسار عن مركز هذا الشكل البيضوي ، فإذا كانت الأرض في المنطقة القريبة من المركز ربما انجذبت إلى الشمس ، ومع انجذاب الأرض إلى الشمس تنتهي الحياة ، عندئذٍ تأتي يدُ القدرة والعلم ، تأتي يد الحكمة واللطف فتزيد من سرعتها شيئاً فشيئاً ، حتى ينشأ من زيادة هذه السرعة قوةٌ نابذةٌ تكافئ القوة الجاذبة ، صنع من ؟ يد من ؟ تقدير من ؟ حكمة من ؟ علم من ؟ إنه الله سبحانه وتعالى ، هذا لطف الله عزَّ وجل لو أن الأرض زادت من سرعتها دفعةً واحدة لتحطَّم كل ما عليها ، ولو أنها أبطأت دفعةً واحدة لارتطم كلُّ ما عليها ، لكن الزيادة بلطف شديد ، والتباطؤ بلطفٍ شديد يجعل الحياة مستمرة عليها .
 
تحرك الأرض حول نفسها يجعل الظل متنقلاً من مكان إلى آخر وهذا من نِعَمِ الله تعالى :     
قال تعالى :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ﴾
(سورة الفرقان)
هذه الشمس إنها دليلٌ على عظمة الله عزَّ وجل ، تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة ، تبلغ حرارتها في الداخل عشرين مليون درجة ، على السطح ستة آلاف درجة ، تنطلق منها ألسنة اللهب بطولٍ يزيد عن نصف مليون كيلو متر ، هذه الشمس تتوقد منذ ما يقارب (كما يقدِّر العلماء) من خمسة آلاف مليون عام ، ما خَبَتْ ، ولا انطفأت ، ولا ضعف لهيبها ، ولا قَلَّ ضوءها ، الشمس آيةٌ من آيات الله عزَّ وجل :
﴿ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)
( سورة فصِّلت )
طبعاً إذا وضعت قضيباً ، غرسته في أرضٍ ، رأيت هذا الظل من بعد الزوال يمتد نحو الشرق شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح طوله مثل طول العود ، ثم مثليه ، ثم أربعة أمثاله، ثم تغيب الشمس فينعدم الظل ، فإذا أشرقَت الشمس من المكان الآخر من الشرق ، هذا المكان الذي كان ظلاً ظليلاً ، أصبح فيه شمسٌ منيرةٌ وقد تكون محرقة في أيام الصيف ، فالذي له بيت له شرفات من جهات مختلفة ، هذه الشرفة من الصباح وحتى الظهيرة كلها شمسٌ محرقة، لكن بعد الظهر يأتي الظل الظليل ، وهذا من رحمة الله عزّ وجل .
 
نعمة الليل والنوم من نِعَم الله تعالى علينا أيضاً :
 
إن تحرك الأرض حول نفسها يجعل الظل متنقلاً من مكان إلى مكان ، وهذا من نِعَمِ الله أيضاً ، قال تعالى :
﴿  ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) ﴾
(سورة الفرقان)
الظل يمتد بشكلٍ مُتعاظِم شيئاَ فشيئاً وينقبض قبضاً يسيراً ، إذاً آية الظل وحدها دليل كروية الأرض ، ودليل حركة الأرض حول الشمس ، والشمس وحدها أساس الظل ، ولولا الشمس لما كان الظل .
﴿  وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا (47) ﴾
(سورة الفرقان)
تصور أن الحياة من دون ليل ، كيف ينام الناس ؟ تحدث فوضى ، هذا ينام وهذا يعمل ، وهذا عاد من عمله ليستريح ، وهذا جاره بدأ يعمل في الليل ، لولا أن هذا الليل الذي جعله الله سكناً للنفوس ، ترتاح فيه النفوس ، هذا الجهاز العصبي الذي يجهد طوال النهار يأتي الليل ليكون راحةً تامة له .
الإنسان حينما يستيقظ من نومه يُحِسُّ أنه نشيطٌ نشاطاً لا حدود له ، وهذا بفضل نعمة النوم ، والذي ينام بشكلٍ معتدل ، هذه نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها ، الأرق شيءٌ لا يحتمل ، شيءٌ يدمِّر الأعصاب ، يدمِّر الصحة ، هو هل عرفته ؟ إنه الله .
 
لولا الليل والنهار لما عرفنا الأعمار ولا الأوقات ولا الأزمنة ولما انتظمت حياتنا :
 
 
قال تعالى :
﴿  وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا (47) ﴾
(سورة الفرقان)
أيْ ساتراً ، كل إنسان يأوي إلى بيته ، الليل لباس بمعنى أنه يستر .
 
﴿ وَالنَّوْمَ سُبَاتًا (47) ﴾
(سورة الفرقان)
السُبات سكون ، تسكن الأعضاء ، تسكن الجوارح ، تسكن العضلات ، تسكن الأعصاب ، ينتهي الكلام ، الإنسان يخلُدُ إلى الراحة ليستعيد نشاطه ، لولا الليل والنهار لما عرفنا أعمارنا :
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا(62)
 ( سورة الفرقان )
وفي آية أخرى :
﴿ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ(12)
 ( سورة الإسراء )
فلان عمره ثلاثون عاماً ، معنى ذلك لولا أن الأرض تدور حول نفسها لما صار ليل ونهار ، الأسبوع سبعة أيام ، سبعة دورات أسبوع ، ثلاثون دورة شهر ، ثلاثمئة وخمس وستون دورة تعد سنة ، ثلاثين سنة ، لولا الليل والنهار لما عرفنا الأعمار ، ولما عرفنا الأوقات ، ولا الأزمنة ، ولما انتظمت حياتنا ، من الذي جعل الشمس في السماء ساعة يدبّ عقرباها إلى قيام الساعة ؟ الشمس ساعة ، والقمر تقويم ، أصبح الظهر ، قرب العصر ، غابت الشمس ، من دون ساعة ، الشمس هي ساعة ، الشمس في كبد السماء ساعة ، والقمر تقويم ، قال تعالى :
﴿  وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) ﴾
(سورة الفرقان)
 
الله عزَّ وجل جعل النهار نشوراً و هذا فضل عظيم منه :
 
الإنسان ينطلق في النهار إلى عمله ، هذا إلى مكتبه ، وهذا إلى معمله ، وهذا إلى حقله ، وهذا إلى دُكَّانِهِ ، وهذا إلى عيادته ، وهذا إلى أشغاله ، فكل إنسان له عمل ينطلق في النهار إليه ، الله عزَّ وجل جعل النهار نشوراً ، فضياء الشمس كافٍ ، هنا فرق بين أن تقود مركبتك في الليل تحس أنك اجتهدت اجتهاداً لا حدود له ، وبين أن تقودها في النهار ، النهار واضح ، الرؤية صحيحة ، وبعيدة ، ومريحة ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿  وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) ﴾
(سورة الفرقان)
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار ؟ )) .
[رواه عبد الله بن أحمد عن سعيد بن أبي راشد]
 
الله تعالى جعل الليل سَكَنَاً ولباساً وجعل النهار معاشاً وهذا من آياته الدالة على عظمته :    
تجد ظلاماً دامساً في أماكن موحشة ، الإنسان يخاف أن يمشي في الغابة ليلاً ، الغابة في الليل موحشة ، الكهوف موحشة ، بعض الطُرُقات موحشة ولا سيما إذا كانت مظلمة ، ولكن إذا طلعت الشمس تغدو الأرض مؤنسة ، مريحة ، تنطلق إلى الحقول والبساتين ، إلى الجبال ، قد تركب البحر في النهار فترتاح نفسك ، أما إذا ركبته في الليل فقد تخاف ، جعل الله الليل سَكَنَاً ، جعله سُباتاً ، جعله لباساً ، وجعل النهار معاشاً ، هذه كلها من آيات الله الدالة على عظمته .
يا أيها الإنسان هل فكرت فيها ؟ هل وقفت عندها ؟ هل تأمَّلت فيها ؟ ماذا تفعل ؟ قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا (45) ﴾
(سورة الفرقان)
تنتهي الحياة :
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ﴾
(سورة الفرقان)
لولا الشمس لما كان الظل ، لولا الشمس لما كانت الحياة ، لولا الشمس لما كان تحرُّك الأرض حول نفسها وحول الشمس .
 
الهواء ينقل الحرارة والبرودة والضوء والصوت :
 
قال تعالى :
﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (48) ﴾
(سورة الفرقان)
أولاً الهواء ، ما هذا الهواء ؟ إنه سبب انتشار الضوء ، في الفضاء الخارجي لا ترى إلا ظلاماً دامساً ، أو نجماً مُتَأَلِّقَاً ، لا يوجد حالة ثالثة ، أما في الأرض هناك أشعة الشمس ، وهناك ظلامٌ دامس ، وهناك حالةٌ ثالثة بين هذا وتلك ، حالة الضياء ، فالغُرف في النهار مضيئة بلا أشعة شمس ، الفضل في هذا يعود إلى الله عزَّ وجل ، من خلال تسخير الهواء لانتشار الضوء ، ذرَّات الهواء تصبح مرايا صغيرة تعكس الضوء ، فإذاً البيت مضيء وأشعة الشمس ليست فيه ، فالهواء ينثر لكم الضوء ، والهواء ينقل إليكم الأصوات ، فرواد الفضاء بالقمر يتحادثون عن طريق اللاسلكي ، ولولا أن الهواء في داخل بذلتهم الفضائية لما أمكنهم الحديث ، لكن لو أن الإنسان وقف على سطح القمر من دون بدلة فضائيَّة وخاطب أخاه الإنسان لما سمع شيئاً ، لو وضع مدفعاً كبيراً على سطح القمر وأطلق قذيفته لا تسمع شيئاً ، لكن الهواء في الأرض ينقل لك الصوت ، ينقل لك الضوء ، ينقل لك الدفء ، أنت تدفِّئ هواء الغرفة عندئذٍ تشعر بالدفء يسري في أعضائك ، وإذا برد هواء الغرفة تشعر بالبرد يريح أعصابك أحياناً ، إذاً الهواء ينقل الحرارة ، ينقل البرودة ، ينقل الضوء ، ينقل الصوت .
 
من حكمة الله عزَّ وجل أنه جعل الهواء مرتبطاً بالأرض :    
 
الهواء جسمٌ لطيف ، ولكن هذه الطائرة التي يزيد وزنها عن ثلاثمئة وخمسين طن من الذي يحملها ؟ الهواء ، كيف هو ؟ هو جسمٌ لطيفٌ فيما يبدو لك ، ولكن الهواء إذا سار دمَّر كل شيء ، فالأعاصير تجعل المدن دياراً خربة ، مدن بأكملها ، أبنيةٌ شاهقة ، المعامل ، المصانع ، المنشآت ، تصبح كلها أنقاضاً ، فالهواء إذا تحرَّك حركةً عنيفةً دمَّرَ كل شيء ، سرعة هذه الأعاصير تزيد عن ثمانمئة كيلو متر في الساعة ، يكفي أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الغلاف الهوائي مرتبطاً بالأرض ، فلو أن الأرض دارت وحدها ، وبقي الغلاف الهوائي ثابتاً ، لنشأ على الأرض أعاصير تزيد سرعتها عن ألف وستمئة كيلو متر ، أي تدمر كل شيء ، هذه حكمة الله عزَّ وجل على أنه جعل الهواء مرتبطاً بالأرض ، فالهواء لو أنه تحرَّك حركةً شديدة دمَّر كل شيء ، لذلك كان النبي إذا رأى رياحاً تعوَّذ بالله من شرها وسأل الله خيرها واستعاذ بالله من شرها ، فَرَّقَ النبي عليه الصلاة والسلام بين الرياح وبين الريح ، الريح الصرصر العاتية :
﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6)سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(8)
( سورة الحاقة )
 
نظرية حركة الهواء :    
 
الهواء يتمدد ، إذا تمدد تخلخل ، وإذا تخلخل ضعف فيه الضغط ، قلَّ الضغط ، والهواء إذا برد تكاثف ، وإذا تكاثف ارتفع الضغط ، عندئذٍ ينتقل الهواء من أماكن الضغط المنخفض إلى أماكن الضغط المرتفع ، هذه هي نظرية حركة الهواء ، فهي تنشأ من وجود المناطق الباردة في الشمال قطبية ، ووجود مناطق استوائية في الوسط ، ووجود سواحل فيها رطوبة عالية ، وفيها حرارة ، ومن وجود أماكن قاحلة كالبوادي ، أو الصحارى ، أو القفار ، من تباين مناطق الأرض ، من تباين الحرارة والبرودة ، تبعاً لخطوط الطول والعرض ، وبعدها عن سطح البحر ، وعن مستوى سطح البحر هذا كله يعين على تشَكُّل الرياح ، والرياح تسوق السحاب ، والله سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا (48) ﴾
(سورة الفرقان)
بُشرَاً أيْ بشارةً :
﴿ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (48) ﴾
(سورة الفرقان)
هي الماء ، ولا يعرف الناس بالضبط ماذا تعني سنوات جفاف السماء ، باديةٌ يمكن أن ترعى أغناماً لا حدود لها ولا حصر لها سنةً وزيادة إذا كانت الأمطار غزيرة ، فإذا جفَّت الأمطار امتنع هذا الكلأ عن أن ينبت ، وشحَّت المراعي ، واضطر الناس لبيع خرافهم بثمن بخسٍ أو ذبحها ، فالكلأ شيء مهم جداً ، والنبات شيء مهم جداً ، والآبار شيء مهم جداً ، والثلوج ، والينابيع ، وكلنا يعلم ماذا يعني انحباس المطر من السماء ، هذا ينعكس على أسعار المواد الغذائية ، وعلى أسعار القمح ، وعلى أسعار كل حاجاتنا ، إذاً :
 
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22)
( سورة الذاريات )
 
 
ماء السماء طاهرٌ مُطَهِّر :
 
قال تعالى :
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) ﴾
(سورة الفرقان)
ماء السماء طاهرٌ مُطَهِّر ، وهو أعلى درجة من الطهارة ، هناك ماءٌ طاهرٌ غير مُطَهِّر ، هناك ماءٌ طاهرٌ مطهر ، هناك ماءٌ غير طاهرٍ وبالتالي غير مُطَهِّر ، ماء السماء طاهرٌ مُطَهِّر :
 
﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) ﴾
(سورة الفرقان)
فتصوروا حياة الإنسان من دون ماء ، كيف ينظِّف نفسه ؟ كيف ينظف حاجاته ؟ كيف يغسل ثيابه ؟ هذا الماء الذي وهبه الله للإنسان فيه صفات عالية جداً ، من هذه الصفات القدرة على النفوذ ، في أدق المسام يسيل الماء ، هذه قدرة ، لو أنه لزجٌ كالقطر ، كيف نستعمله ؟ له نفوذية  إلى درجةٍ متناهية ، الماء يتبخَّر في درجاتٍ دُنيا ، لو أنه تبخر في درجات عُليا لأصبحت مصيبة ، لو أنك ألقيت الماء في أرض الدار في الشتاء لبقيت إلى فصل الصيف ، ففي عشر درجات يتبخر الماء ، يغلي بدرجةٍ ثابتة ، لا لون له ، لا طعم له ، لا رائحة له ، شفَّاف ، صافي ، فنعمة الماء لا تعدلها نعمة .
 
الماء الذي وهبه الله للإنسان فيه صفات عالية جداً :    
 
في الوقت نفسه هذا الماء لا ينضغط ، لو وضعت متراً مكعباً من الماء في مكبس ووضعت فوقه ثمانمئة طن لا ينضغط أبداً ، فإذا تمدد الماء دمَّر كل شيء ، بل إن تفتيت الصخور الآن يتم عن طريق حفر ثقوب في الصخور وإملائها بالماء ، ثم تبريد الماء ، عندئذٍ الصخر ينشق ، وهناك شيء مهم جداً في الماء ربما لا يصدق الإنسان أن حياتنا مبنيةٌ عليه ، الماء إذا برَّدته ينكمش شأنه شأن كل عنصر ، ينكمش وينكمش إلى درجة ( +4 ) عندئذٍ تنعكس الآية فيتمدد ، لو أن الماء ينكمش عند التبريد لانتهت الحياة على وجه الأرض ، كلما جمد سطح البحر زادت كثافته فغاص في أعماق البحر ، ما هي إلا سنواتٌ عدَّة حتى تتجمَّد كل المحيطات ، ينعدم التبخر ، تنعدم الأمطار ، لا ينبت النبات ، يموت الحيوان ، يتبعه الإنسان ، لو أن الماء انكمش مع التبريد ، من خلق في الماء هذه الصفة ؟
إن التعليل العلمي لانعكاس آية انكماش الماء من انكماش إلى تمدد ، هذه لها تفسير مُعَقَّد جداً ، كيف أن هذا السائل لو أنك بردته ينكمش ، طبعاً بدرجات تقاس بأجهزة دقيقة ، لكن حينما تصل الدرجة إلى (+4) تنعكس الآية فيتمدد ، هذه الظاهرة من صممها ؟ من خلقها ؟ من قننها ؟ من جعلها هكذا ؟ إنها من عند الحكيم الخبير .
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) ﴾
(سورة الفرقان)
 
الماء يحيي بلدةً بإنبات النبات ويسقي الحيوان ويسقي الإنسان :    
 
الله عزَّ وجل قال :
﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا (49) ﴾
(سورة الفرقان)
البلد من دون ماء يموت ، يموت النبات ، فيموت الحيوان ، ويموت الإنسان ، وفي بعض المشاهد من بلادٍ أصابها الجفاف سبع سنين ، الأشجار كلها يابسة ، والأنعام كلها ميَّتة ، هياكل عظمية عليها جِلْد ، صور بإفريقيا ، حينما تجف ، حينما يصيب الجفاف أرضاً معينة تصبح الأرض ميِّتة ، أرضاً ونباتاً وحيوانات ، ويتبعها الإنسان إن بقي فيها .
 
﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ (49) ﴾
(سورة الفرقان)
هذا الماء :
﴿ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) ﴾
(سورة الفرقان)
بدأ الله عزَّ وجل بالنبات ، ثم بالحيوان ، ثم بالإنسان ، لأن حياة الحيوان متوقفةً على النبات ، وحياة الإنسان متوقفةٌ على الحيوان ، فهذا الماء يحيي بلدةً بإنبات النبات ، ويسقي الحيوان ، ويسقي الإنسان ، اللهم اسقنا الغيث .
 
معنى صرَّفناه أي نقلناه من مكان إلى آخر كي يلتفت الإنسان إلى الله عزَّ وجل :
 
 
قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ (50) ﴾
(سورة الفرقان)
في بعض التفاسير : أن هذا الماء صرَّفناه ، نقلناه من مكان إلى مكان ، في هذا العام هنا أمطار غزيرة وسيول وفيضانات ، وهنا جفافٌ ومَحْلٌ وقَحْط ، هذا الماء صرَّفناه أي نقلناه من مكان إلى آخر ، كي يلتفت الإنسان إلى الله عزَّ وجل ، لو أن الله سبحانه وتعالى أغدق على الناس نِعَمَهُ من دون تبديل أو تغيير ، من دون لفت نظر ، لانغمس الإنسان في شهوات ولنسي ربه :
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ(27)
 ( سورة الشورى )
تأتي سنواتٌ مطيرة ، وتأتي سنواتٌ جافة ، في السنوات الجافة يجب أن نذكر الله عزَّ وجل ، يجب أن ندعوه ، يجب أن نبتهل إليه ، فهذا معنى قول الله عزَّ وجل :
 
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ (50) ﴾
(سورة الفرقان)
هذا الماء ، ماء السماء .
 
الهاء في كلمة صرفناه لها معنيان :    
 
1 ـ المعنى الأول أنها تعود على الماء :
قال تعالى :
 
﴿ صَرَّفْنَاهُ (50) ﴾
(سورة الفرقان)
الهاء تعود على الماء ( المعنى الأول ) :
 
﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ (49) ﴾
(سورة الفرقان)
جمع ناس :
﴿ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ (50)  ﴾
(سورة الفرقان)
نقلناه من مكان إلى مكان ، هذه السحابة ، صُرِفَتْ عن هذا المكان وهطلت في هذا المكان ، بعد عامٍ آخر صرفت عن هذا المكان وهطلت في هذا المكان .
 
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا (50) ﴾
(سورة الفرقان)
لذلك ورد في الأثر :
((اللهم أرنا نعمك بكثرتها لا بزوالها)).
 
الفرق بين المؤمن والكافر في سنوات الرخاء وسنوات الشدة :       
 
ربما نعرف قيمة المطر في سنوات الجفاف ، قيمة المطر ، علاقتها بتوليد الكهرباء ، علاقتها بالمزروعات ، علاقتها بالثمار ، علاقتها بالمحاصيل ، علاقتها بمحصول القمح ، بمحصول الشعير ، علاقتها بالأسعار ، هذا كله نعرفه في سنوات الجفاف ، ولكن البطل يجب أن يعرف نعمة الله في سنوات الرخاء ، لهذا ورد في الأثر :
((اللهم أرنا نعمك بكثرتها لا بزوالها)).
قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ (50) ﴾
(سورة الفرقان)
هذا الماء .
﴿ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) ﴾
(سورة الفرقان)
من شأن الكافر أن الدنيا إذا أقبلت عليه تاه ، وتكبَّر ، واستعلى ، فإذا انصرفت عنه يَئِسَ وقَنَط ، فهو بين الغرور وبين اليأس ، أما المؤمن إذا جاءته الدنيا زادته تواضعاً ، وإذا انصرفت عنه زادته التجاءً إلى الله عزَّ وجل ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ وَكَانَ خَيْرًا)).
[ مسند أحمد عن صهيب ]
النبي عليه الصلاة والسلام جاءه جبريل فقال : " يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بل نبياً عبداً ، أجوع يوماً فأذكره وأشبع يوماً فأشكره "
[ورد في الأثر]
فهذه من نعمة الله عزَّ وجل .
 
2 ـ المعنى الثاني أنها تعود على القرآن الكريم :
 المعنى الثاني أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الضمير :
 
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ (50) ﴾
(سورة الفرقان)
يعود على القرآن الكريم أي أن هذا القرآن جعلناه بين أيديهم ويسَّرنا لهم تلاوته .
 
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ(17)
 ( سورة القمر )
قد سَهَّلَ الله للناس قراءة هذا القرآن ، سخَّر له علماء أشداء ، جهدوا في نقله ، وحفظه ، وضبطه ، وضبط آياته ، وسوَرِهِ .
 
تقنين الله عزَّ وجل هو تقنين تأديب ومعالجة لكن تقنين الإنسان تقنين عجز وضَعف :
 
قال تعالى :
 
﴿ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) ﴾
(سورة الفرقان)
إما أن يعود هذا الضمير في قوله تعالى :
 
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ (50) ﴾
(سورة الفرقان)
لأقرب شيءٍ إلى الضمير وهو الماء ، أو أن يعود هذا الضمير إلى ما سيتبع وهو قوله تعالى :
 
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) ﴾
(سورة الفرقان)
كفوراً بهذا الكتاب ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((عَجِبَ رَبُّنا تعالى مِنْ قَومٍ يُقادونَ إلى الجنَّة في السَّلاسِلِ)) .
[رواه البخاري عن أبي هريرة]
أي بالمصائب ، بالضيق ، ربما كان نقص الماء ، نقص المواد ، لأن ربنا عزَّ وجل إذا قَنَّن فتقنينه تقنين تأديب ، تقنين معالجة ، لكن الإنسان إذا قنن تقنينه تقنين عجز وضَعف .
 
لحكمة أرادها الله سبحانه بعث النبي عليه الصلاة والسلام للناس كافة :    
 
قال تعالى :
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) ﴾
(سورة الفرقان)
شاءت حكمة الله أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام للناس كافة :
 
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) ﴾
(سورة الفرقان)
أولاً رَفْعَاً لشأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما يجعله الله نبياً لكل الناس ، رحمةً للناس .
وشيءٌ آخر ربما تقتضي مصلحة الإنسان أن يكون النبي واحداً في عصرٍ واحد . على كلٍ :  ولو شئنا أي أن الله لم يشأ ذلك لحكمةٍ يعلمها ، قال تعالى :
 
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ (52) ﴾
(سورة الفرقان)
على من تعود هذه الهاء ؟ العلماء قالوا : على القرآن .
 
من أبواب الجهاد أن تتسلَّح بالقرآن الكريم علماً وعملاً :
     
 
قال تعالى :
 
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ﴾
(سورة الفرقان)
الله سبحانه وتعالى وصف هذا الذي يحفظ القرآن ، ويتلو القرآن ، ويبيِّن معاني القرآن ، ويرُدُّ شُبَهَ المعترضين ، ويرد على كيد الكائدين ، ويبيِّن إعجازه ، ونظمه ، إعجازه العلمي ، إعجازه التشريعي ، إعجازه البياني ، إعجازه اللغوي ، إعجازه الرياضي ، هذا الذي يبيِّن عظمة القرآن ويرد بهذا البيان على كل معترض ، هذا الإنسان كأنه يجاهد به .
 
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ﴾
(سورة الفرقان)
إذاً بابٌ كبير من أبواب الجهاد أن تتسلَّح بهذا القرآن ، قراءةً ، تلاوةً ، فهماً ، حفظاً ، تفسيراً ، درايةً ، تدبُّراً ، تَتَبُّعَاً ، نشراً ، تعليماً :
 
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ﴾
(سورة الفرقان)
أي أن الكون في كفة ، وهذا القرآن في كفة .
 
أقسم الله بالكون على أن هذا القرآن كريم :
 
قال تعالى :
 
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)
( سورة الواقعة )
أقرب نجم ملتهب إلى الأرض بعده عنَّا أربع سنوات ضوئية ، وهذا الرقم يعني أنَّك لو توجهت إلى هذا النجم القريبُ القَريبُ القرِيبُ ، الذي لا يبعد عنا إلا أربع سنوات ضوئية ، وسرت إليه بسرعة السيارة ، لاستغرقت هذه الرحلة ما يقرب من خمسين مليون سنة ، إذا كان هذا النجم الذي يبعد عنا أربع سنواتٍ ضوئية يحتاج الإنسان ليصل إليه بسرعة السيارة إلى خمسين مليون سنة ، فمتى يصل إلى نجم القطب الذي يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية ؟ أربع سنوات خمسين مليون سنة ، أربعة آلاف سنة ؟ متى نصل إلى المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليون سنة ضوئية ؟ متى نصل إلى أحدث مجرة اكتشفت حديثاً التي تبعد عنا ستة عشر ألف بليون سنة ضوئية ؟
 
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77)
( سورة الواقعة )
أقسم الله بالكون على أن هذا القرآن كريم ، في كتابٍ مكنون لا يمسه إلا المطهرون ، قال تعالى :
 
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ(1)
 ( سورة الأنعام )
وقال :
 
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ(1)
 ( سورة الكهف )
 
علينا تعلُّم تلاوة القرآن وفهم آياته وتدبُّر أحكامه وتعليمه للناس وهذا جهادٌ كبير :    
 
إذاً هذا القرآن :
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ﴾
(سورة الفرقان)
لذلك تعلُّم تلاوته ، تعلم تجويده ، تعلم مخارج حروفه ، تعلم أماكن الوَقْف ، تعلم كلماته ، فهم آياته ، تدبُّر أحكامه ، استنباط معجزاته ، تعليمه للناس ، تفسيره ، هذا جهادٌ كبير :
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ﴾
(سورة الفرقان)
حينما لا يكون الجهاد الصغير فهذا جهادٌ أيضاً كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( رجعنا من الجهاد الأصغر ـ وهو الحرب ـ إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى ))  .
[ من الجامع الصغير عن جابر]
 
الإنسان إذا علَّم هذا القرآن للناس وأحيا به نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً :   
 
لا تنسوا أن الإنسان إذا علَّم هذا القرآن للناس وأحيا به نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً :
﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا(32)
( سورة المائدة )
إذاً :
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ﴾
(سورة الفرقان)
أي جاهدهم بالقرآن ، أتلُ هذا القرآن على مسامعهم ، علِّمهم أحكامه ، علمهم تفسيراته ، علمهم إعجازه ، علمهم نظمَه ، علمهم بيانه ، علمهم فيه كل شيء ، وفي القرآن كل شيء .
﴿ وَهُوَ الَّذِي (53) ﴾
(سورة الفرقان)
هل عرفتم الله عزَّ وجل ؟
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) ﴾
(سورة الفرقان)
 
مياه كل بحرٍ لها مكوِّنات خاصة بها تختلف عن مياه بحر آخر :
 
قال تعالى :
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) ﴾
(سورة الفرقان)
هذه الآية وقف عندها المفسِّرون وقفاتٍ طويلة ، حاروا بها ، أين هو هذا البرزخ الذي بين البحرين ؟ هذه الآية تُكَمِّل آيةً أخرى في سورة الرحمن ، وهي قوله تعالى :
 
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19)بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21)
( سورة الرحمن )
بعض علماء البحار صوِّروا بعض المضايق من سفن الفضاء ، فإذا بين كل بحرين خط ، بين البحر الأحمر والبحر الهندي خط ، بين البحر الأبيض والبحر الأسود خط، بين البحر الأبيض والمحيط الأطلسي خط ، هذا الخط عند اتصال البحرين ، هذا الخط متحرك ومَرِن ، ما هو هذا الخط ؟ اكتشف أن مياه كل بحرٍ لها مكوِّنات ، لها كثافة ، لها درجة ملوحة ، لها درجة حرارة ، مياه كل بحرٍ لا تطغى على البحر الآخر ، فالبحر الأحمر له ملوحته الخاصة به ، وللبحر الأحمر مكوّناته الخاصة به ، وللبحر الأحمر كثافته الخاصة به ، وللبحر الأحمر حرارته ، فإذا انتقلنا إلى المحيط الهندي ، له حرارته ، وكثافته ، وملوحته ، ومكوناته ، قال تعالى :
 
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19)بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21)
( سورة الرحمن )
 
الحاجز بين البحرين الذي يمنع أن يطغى كل بحرٍ على الآخر من الأدلة على عظمته سبحانه :       
 
شيءٌ لا يصدَّق ، هذا الحاجز بين البحرين الذي يمنع أن يطغى كل بحرٍ على الآخر ، ما طبيعته ؟ لا أحد يدري ، لكن سُفن الفضاء صوَّرته ، هناك فرقٌ في اللون ، وهناك خطٌ بينهما ، الآية الثانية التي تكمل الآية الأولى .
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ (53) ﴾
(سورة الفرقان)
بعض الأنهار الكبير كنهر الأمازون الذي تزيد غزارته عن ثلاثمئة ألف متر في الثانية ، هذا النهر يسير في عرض المحيط الأطلسي ما يزيد عن ثمانين كيلو متر ، وتبقى مياه النهر عذبة ، وتبقى مياه البحر مالحة :
﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)
( سورة الرحمن )
 
تتمة الحديث عن الأدلة الدالة على عظمة الله :       
 
قال تعالى :
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ (53) ﴾
(سورة الفرقان)
حلو المذاق ، طيِّبُ الطَعم ، شديد العذوبة :
﴿ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ (53) ﴾
(سورة الفرقان)
لا يُحْتَمَل :
﴿ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا (53) ﴾
(سورة الفرقان)
طبعاً هذا ينطبق أيضاً على الينابيع العذبَةِ في مياه البحار ، البحرين تشرب من مياه البحر ، يركبون القوارب إلى عُرض البحر فيملؤون أوعيتهم من ماءٍ عذبٍ ينبُعُ وسط البحر ، هذا ينطبق على الأنهار وهي في عرض البحار ، وينطبق على الينابيع الحلوة التي تنبع وسط البحار ، وله معنىً ثالث نشرحه بعد قليل .
 
البرزخ يمنع كل ماء من أن يطغى على الآخر لكن طبيعته غير معروفة حتى الآن :
 
قال تعالى :
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا (53) ﴾
(سورة الفرقان)
البرزخ يمنع كل ماء من أن يطغى على الآخر ، فهل يمكنك أن تمرر مياه بقناة ، وتمرر مياه أخرى بقناة معترضة بحيث تتعامد مع القناة الأولى ، كشارع متعامد مع شارع ، اعمل مجريين متعامدين مع بعضهما ، وأجرِ في هذا المجرى ماءً مالحاً ، وفي هذا المجرى ماءً عذباً ، فهل تستطيع أن تصل إلى مياهٍ عذبة بعد أن تعترض المياه المالحة ؟ هذا شيءٌ فوق طاقة البشر ، لكن الله سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا (53) ﴾
(سورة الفرقان)
البرزخ حاجزٌ لا ندري ما هو حتى الآن ، موجود والدليل آثاره ، لأن مياه كل بحرٍ لا تطغى على البحر الآخر ، أما طبيعته غير معروفةٍ ، صوَّرته سُفُن الفضاء ، بل إن بعض علماء البحار الكبار الذين اكتشفوا هذا الكشف العلمي المتفوق وهو في زهوة انتصاره ، وفي نشوة اكتشافه أُنْبِئَ أن في القرآن الكريم هذه الآية ، أسلم فوراً ، لا يعقل ، هذا شيءٌ جديد لا يعرفه أحد ، أما الحِجْرُ المحجور هذا شيءٌ آخر ، هذا يمنع أسماك المياه العذبة من أن تنتقل إلى المياه المالحة ، ويمنع أسماك المياه المالحة من أن تنتقل إلى المياه العذبة .
 
من تصميم الله للأنهار أنه جعلها تهبط إلى البحر من مكانٍ مرتفع :       
 
قال تعالى :
﴿ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) ﴾
(سورة الفرقان)
هذه آيةٌ دالة على عظمة الله ، بعض المفسرين قال : لا ، هناك معنى آخر : هذه مياه البحر ، الله سبحانه وتعالى جعل جميع المياه العذبة التي تصبُّ في البحر جعلها تهبط إليه من مكانٍ مرتفع ، فلو أن المياه العذبة سارت إليه بمستوى ماء البحر ، وجاء المد والجزر لطغت مياه البحر على كل الأنهار وجعلتها مالحة ، من تصميم الله للأنهار أنه جعلها تهبط إلى البحر من مكانٍ مرتفع .
لو أن القمر اقترب من الأرض ، الآن القمر يبعد عنا ما يزيد عن ثلاثمئة ألف كيلو متر ، أثر المد والجزر واضحٌ في المياه ، مياه البحار ترتفع عشرين متراً طولياً في المد وتنخفض عشرين متراً في الجَزر ، لو أن القمر اقترب من الأرض إلى نصف هذه المسافة ، لارتفعت مياه البحار أكثر من ثمانين متراً ، إذاً معظم المدن الساحلية والمناطق المحيطة بالبحار تنغمر بالمياه المالحة ، لو أن مياه الأنهار سارت إلى البحر بمستوى يقارب سطح البحر ، وجاء المد أو الجزر لطغت مياه البحار على الأنهار وأفسدت طعمها ، لذلك تصميم التضاريس التي من خلالها تنصبُّ المياه على البحار هذا تصميم حكيمٍ خبير ، بحيث لا تغطى مياه البحار على مياه الأنهار ، هذا تفسير آخر ، والقرآن حَمَّال أوجه بمعاني كلمات الله :
 
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109)
( سورة الكهف )
قال تعالى :
 
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) ﴾
(سورة الفرقان)
 
الماءٌ المهين هو الماء الذي خلق الله منه البشر :       
 
ألم تعرفه بعد ؟
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا (54) ﴾
(سورة الفرقان)
ماء ، ماء مَهين ، تستحي به لو كان على ثوبك ، ماءٌ مهين خلق الله منه بشراً :
 
﴿ فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا (54) ﴾
(سورة الفرقان)
أي ذكراً وأنثى ، النَسَب هو الرجل ينسب الابن إليه ، والصِهر أي البنت التي تجلب الصهر .
 
خلق الإنسان آيةٌ أخرى دالة على عظمة الله عزَّ وجل :
 
قال تعالى :
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) ﴾
(سورة الفرقان)
هذه آيةٌ أخرى دالة على عظمة الله عزَّ وجل ، كيف أن الإنسان الذي خُلِقَ من ماءٍ مهين يصبح أعصاباً ، وعضلات ، وأوعية ، وقلب ، ورئتين ، وجهاز هضمي ، وجهاز تنفُّس ، وجهاز إفراز ، وأعصاب حس ، وأعصاب حركة ، وعظام منوَّعة أنواعاً شديدة ، ومفاصل ، ودماغ فيه ذاكرة ، وفيه تصور ، وفيه تخيُّل ، وفيه إدراك ، وفيه إحساس ، هذا الإنسان كيف خلق من ماءٍ مهين ؟ وكيف رُكِّبَ الذكر ذكراً والأنثى أنثى ؟ تفاوت في البنية ، وفي الهيكل ، وفي الطباع ، وفي التفكير ، وفي وسائل التفكير ، هذا كله من خلق الله عزَّ وجل ، إن شاء الله في درسٍ قادم نقف عند هذه الآية وقفةً متأنية .
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب