سورة النّور 024 - الدرس (3): تفسير الآيات (003 – 005)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة النّور 024 - الدرس (3): تفسير الآيات (003 – 005)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة النّور

New Page 1

تفسـير القرآن الكريم ـ سـورة النّور- (الآيات: 003 - 005)

17/07/2011 17:59:00

تفسير سورة النور (024)
الدرس (3)
تفسير الآيات (3 – 5)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
          الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
          أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثالث من سورة النور ، في الدرس الماضي تم بفضل الله عز وجل شرح بعض المعاني من الآية الكريمة :
 
]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ .
(سورة النور: الآية 2)
وآية اليوم :
                                                  
﴿ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
 (سورة النور)
الحكمة من ورود الزاني قبل الزانية في هذه الآية :
 
          الشيء الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى بدأ في هذه الآية :
]وَالزَّانِيَةُ وَالزَّانِي[ بدأ بالزانية ، وفي الآية الثانية :
 
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً[
بدأ بالزاني .
قال بعض العلماء : إن الزانية في الآية الأولى قدمت على الزاني لأنها الأصل في عملية الزنى ، فهي التي أظهرت مفاتنها ، وهي التي قالت له : هيت لك ، وهي التي كانت السبب في الزنى ، ولكن جاء الزاني في الآية الثانية مقدما على الزانية لأن الرجل في عقد النكاح هو الأصل ، وهو الذي يطلب ، إذا حملنا كلمة ينكح بمعنى عقد الزواج ، ففي القرآن الكريم وردت كلمة النكاح بمعنى عقد الزواج ، وقد ذكر بعض العلماء أن كلمة النكاح تعني عملية اللقاء ، فلذلك الزاني هنا قدم على الزانية لأنه إذا كان النكاح هو عقد الزواج فالرجل فهو الأصل ، فهو الذي يطلب ، لذلك قدم الزاني على الزانية .
شيء آخر :
 
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[ .
 
الكلام البلاغي خبرٌ وإنشاء :
 
من أجل أن يكون التفسير واضحا فلابد من وقفة بلاغية ، فالكلام عند علماء البلاغة خبر وإنشاء .
1 – الإنشاء :
الإنشاء هو الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، والتمني ، والترجي ، والحض ، والنداء ، هذه الأساليب تسمى أساليب الإنشاء ، لأن هذا الكلام لا يحتمل الكذب أو الصدق ، مثلا لو أنك سألت إنساناً : كم الساعة ؟ هل له أن يقول لك أنت كاذب ؟ لا يمكن أن يقال للسائل : كاذب ، ولا للمستفهم ، ولا للذي يأمر ، ولا للذي ينهى .
2 – الخبر :
 
أما إذا قلت : أنا عندي مئة ألف ليرة فهذا خبر ، والخبر يحتمل الصدق والكذب ، فربنا عز وجل أحيانا يأتي بالكلام على صيغة الخبر ، وهو يريد النهي .
          هذا المعنى دقيق يوضح بمثل منتزع من حياتنا اليومية : لو أن أبا قال لابنه لا تأت بعد الساعة العاشرة ، إنه ينهاه عن أن يأتي بعد هذه الساعة المتأخرة ، فهذا نهي ، ولكن النهي يفيد أنه بإمكان هذا الولد أن يأتي قبل الساعة العاشرة ، أو بعد الساعة العاشرة ، والنهي يحتمل تصور وجود المنهي .
          إذا قال المدير لموظفيه : لا تتأخروا ، معنى ذلك أن التأخر واقع منهم ، إنه من الممكن أن يتأخروا ، فنهاهم عن التأخر ، فالنهي من لوازمه أنه يفيد احتمال وقوع المنهي ، فإذا قلت لإنسان : لا تأكل كثيرا ، معنى ذلك أن من عادته أن يأكل كثيرا ، فهذا الأب الذي قال لابنه : لا تأتِ بعد الساعة العاشرة ، فهو ينهاه أن يأتي بعد هذه الساعة ، لأن احتمال مجيئه بعد هذه الساعة قائم ، أما إذا قال الأب لابنه: أنا ليس عندي أحد يأتي بعد الساعة العاشرة ، فهذا الكلام خبر ، ولكن هذا الكلام الخبري صيغ على طريقة تفيد النهي ، ولكن لا يلزم من هذا الكلام أن هناك احتمال أن يأتي هذا الابن متأخراً ، فربنا عز وجل أحيانا يسوق النهي على شكل خبر ، مثلا  قوله عليه الصلاة والسلام :
((لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ولا عَلَى خَالَتِهَا)) .
[البخاري ، مسلم عن أبي هريرة ، والترمذي عن ابن عباس]
فهذا خبر يفيد النهي ، وقوله صلى الله عليه وسلم :
((لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً)) .
[البخاري ، الترمذي ، النسائي]
وهذا خبر يفيد النهي أيضًا .
 
أهمية معرفة الخبر والإنشاء في فهم آيات الله :
        وهذا الموضوع ؛ أن تعرف أن الكلام خبر وإنشاء مهم جدا في فهم آيات الله ، الإنشاء هو الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، والتمني ، والترجي ، والحض ، هذه كلها أساليب الإنشاء ، وما عداها فهي أساليب الخبر ، فربنا عز وجل قال :
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً[ هذا خبر .
أمّا قول عز وجل :
 
]وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا[ .
(سورة الإسراء : الآية 32)
فهذا إنشاء ، لأنه بطريق النهي .
فقوله :
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً[ خبر ، لكنه حُمِل على الإنشاء ، لأنه يفيد المبالغة ، فإذا أردت أن تنهى فنفيت على أسلوب الخبر ، فهذا أبلغ في النفي ، فإذا قلت لابنك : ليس عندي ولد يأتي بعد الساعة العاشرة ، فهذا خبر محمولٌ على النهي ، وهو أبلغ في النهي ، فربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً[
يتضمن حكمًا دقيقًا جدا ، وهو أن المتعاطِفَيْنِ لا بد من علاقة بينهما ، فالإنسان يقول مثلا : اشتريت بيتاً وأرضاً ، ولا يقول : اشتريت بيتاً وملعقةً ، فلا تناسبَ بينهما ، لابد من التناسب بين المتعاطِفَيْنِ ، اشتريت بيتاً ودكاناً ، دكاناً ومركبةً ، مركبةً وبيتاً ، أما إنه يمكنك القول : اشتريت ملعقة مثلا وكأساً ، اشتريت قميصاً وسروالاً ، فلابد من التناسب بين المتعاطِفَيْنِ ، فربنا سبحانه وتعالى قرن بين الزنى وبين الشرك ، فجعله كالزنى ، وقبح الزنى ، فجعله كالشرك ، من هنا جاء التعاطف :
 
 
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[ .
 
تفسير الآية ومعانيها :
           فهذه الآية لها عدة معان ، وقد اختلف العلماء في تفسيرها .
التفسير الأول : خبرٌ للمبالغة :
بعضهم قال : هذا نهي جاء على شكل الخبر للمبالغة ، وكأن الله سبحانه وتعالى ينهانا أن نعقد زواجا بين زانٍ وبين عفيفة ، أو بين زانية وعفيف ، وبين رجل مؤمن عفيف وبين زانية ، أو مَن هي أسوأ حالاً منها ، وهي المشركة ، ونهانا أن نعقد زواجا بين امرأة مسلمة عفيفة ، وبين زان ، أو من هو أقبح حالا منه ، وهو المشرك ، فالمعنى الأول المستفاد من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ينهانا على أن نعقد زواجا بين مسلم عفيف ، وبين زانية مشركة ، فهذا الزواج باطل ، لذلك هذا موضوع خلافي بين الفقهاء ، والحديث فيه يطول ، ويرجع إليه من شاء ذلك إلى كتب الفقه ، بل إلى كتب الفروع ، هذا هو المعنى الأول .
يؤكد هذا المعنى قراءة وردت على لسان بعض الصحابة : الزَّانِي لاَ يَنكِحْ : بجزم ينكحْ ، فإذا كانت على الجزم جاءت ( لا ) ناهية ، بمعنى النهي ، لكن قراءة حفص عن عاصم :
 
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[ .
التفسير الأول : خبرٌ للتقبيح :
          عندنا معنى آخر لهذه الآية ، وهو أنها خبر ، كما قلت قبل قليل ، ولكن يفيد التقبيح ، أيْ ليس من المستحسن ، وليس من اللياقة أن ينكح الزاني عفيفة ، وليس من المعقول أن تنكح الزانية عفيفاً ، فهذا خبر ساقه الله عز وجل على سبيل تقبيح هذا الفعل ، لا على سبيل التحريم .
          المعنى الأول خبر ساقه الله عز وجل على سبيل التحريم ، والمعنى الثاني خبر ساقه الله عز وجل على سبيل التقبيح ، أيْ يقبح أن يتزوج المرأة الزانية رجل عفيف ، هذا الشاب طاهر ، حياته نظيفة نقية ، ليس في حياته زنى ، الزانية امرأة خسيسة ، امرأة قذرة ، امرأة حادت عن الطريق الصحيح ، فكيف تستقيم الحياة بين رجل عفيف ، وبين امرأة زانية ؟ وكيف ينسجمان ؟ شيء قبيح بالإنسان أن يقترن بزانية ، وهو العفيف ، أو بالعكس ، فقبيح بالمرأة العفيفة أن يقترن بها إنسان زان ، فالمعنى الثاني حمل لا على التحريم ، بل على التقبيح ، أيْ ليس من المعقول ذلك .
          الحقيقة أن الحياة الواقعية فيها أمثلة كثيرة ، الشيء الثابت أنه قد يتزوج الزاني امرأة عفيفة ، وقد تتزوج الزانية شابا عفيفا .
التفسير الثالث : على معنى ( ينبغي ) :
هذا التحريم محمول بالمعنى الثالث على أنه "ينبغي" ، فمثلا ربنا سبحانه وتعالى قال :
 
 
 ]الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[ .
[النور : من الآية 26]
         فإذا فهمت هذه الآية على أن هذا الشيء واقع مائة بالمائة فقد تفاجأ بامرأة طاهرة زوجها غير طاهر وقد تفاجأ بإنسان طيب وله زوجة غير طيبة ، الواقع على عكس ذلك ، فلما قال ربنا عز وجل :
 
]وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[ .
معنى ذلك : أي أنتم يا عبادي احرصوا على أن يكون الطيبون للطيبات ، أو ينبغي أن يكون الطيبون للطيبات ، فإذا جاء الخبر مخالفا للواقع فهو محمول على كلمة ينبغي .
        ولو أنك قلت للناس : قال الله تعالى :
 
]وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[
فهذه قاعدة ثابتة لا تخطئ ، فقد تُفاجأ بامرأة مسلمة مصلية صائمة ورعة ، لها زوج يشرب الخمر ، هل نقول : إنّ القرآن باطل ؟ لا ! القرآن حينما قال :
]لِلطَّيِّبَاتِ[ أراد أن يوجهنا إلى أن نزوج فتياتنا الطيبات رجالاً طيبين ، ويوجهنا أيضا إلى أن نزوج شبابنا الطيبين فتيات طيبات ، هذا توجيه أخلاقي اجتماعي ، لذلك حينما تأتي الآيات ذات الطابع الخبري مخالفة للواقع ، فهذه آيات اسمها آيات متشابهة مشكلة ، فالعلماء لهم في توجيهها هذا التوجيه الرائع ، أيْ ينبغي يا عبادي أن يكون الطيبون للطيبات .
 مثلا : قال الله تعالى في البيت الحرام :
 
]وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ .
(سورة آل عمران : من الآية 97)
أي هذا البيت الحرام لا يمكن أن تقع فيه مشكلة ، فلما وقعت مشكلة قبل سنوات شكك بعضهم في كتاب الله ، هذه الآية معناها : يا عبادي اجعلوا هذا البيت آمنا ، هذا خبر ساقه الله بمعنى ينبغي ، أيْ ينبغي أن يكون آمنا ، واجعلوه آمنا ، هذا فهم دقيق لقوله تعالى:
 
]وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ .
وقوله سبحانه :
 
 
]وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [ .
وقوله :
 
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً[ .
المعنى الثالث : خبر ساقه الله عز وجل ليقبح هذا الزواج ، الذي فيه تناقض بين الزوج وبين الزوجة ، الزوجة في واد ، والزوج في واد آخر ، من هنا استنبط علماء الفقه موضوع الكفاءة ، فلا يتم الزواج ، ولا ينجح ، ولا يستقر إلا إذا كان هناك كفاءة بين الزوجين ، فلا ينبغي للزوج البعيد عن الدين أن يقترن بزوجة صاحبة دين ، لأنه هو بعيد عن هذه الأجواء ، بعيد عن جو القرآن ، عن جو الصلاة ، عن جو الصوم ، عن أجواء الطهر ، عن أجواء الفهم ، عن أجواء العقيدة ، عن أجواء الصلة بالله عز وجل ، فإذا قامت لتصلي ينهرها ، ويوبخها ، ويسخر منها ، حينما يسخر منها تنزعج منه ، وتنكمش ، فلا ينجح الزواج إلا إذا كان هناك انسجام ، وتوافق بين الزوجين على المستوى الديني ، وعلى المستوى الاجتماعي ، وعلى المستوى الاقتصادي ، وعلى المستوى الثقافي ، فكلما كان هناك تقارب بين الزوجين على مختلف الأصعدة - إن صح التعبير - ينجح الزواج ، فهذا المعنى الثالث لقوله :
 
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً[ .
أي لا يليق بالعفيف أن ينكح زانية ، كما لا يليق بالعفيفة أن ينكحها زان .
        أول معنى على التحريم خبر جرى مجرى التحريم ، والمعنى الثاني خبر جرى مجرى التقبيح ، وخبر يعد كالخبر الحقيقي ، تقول أحيانا : الشيخ لا يصبو ،  ليس من عادة الشيخ أن يصبو ، أي أن يحب ، والسلطان لا يكذب ، ليس من عادة السلطان أن يكذب ، فهذا خبر جاء محض خبر ، من عادة الزاني أنه لا يطرب إلا للزانية ، ومن عادة الزانية أنها لا ترضى إلا بالزاني ، هنا جاء الخبر على معناه الحقيقي ، فالمعنى الثاني جاء الخبر على معنى التقبيح ، وفي المعنى الثالث جاء الخبر ليخبرنا أنه في الأعم الأغلب الزاني لا ترتاح نفسه إلاّ للزانية ، لا ينسجم إلا مع الزانية ، والزانية لا تقبل إلا بالزاني .
         هذه المعاني المنوعة في هذه الآية تفيد التحريم أحيانا ، وتفيد التقبيح أحيانا ، وتفيد تقرير عادة في المجتمع أحيانا أخرى ، وتفيد الإخبار بشكله الطبيعي .  
 
وَحُرِّمَ ذَلَكَ عَلَى الْمُؤْمِنينَ
 
الإيمان مرتبة علمية : 
أي الزنى محرم على المؤمنين ، فالإيمان كما قال الحسن البصري :
(( لَيس الإيمانُ بالتمنِّي ، ولا بالتحلِّي ، ولكن ما وَقَرَ في القلبِ ، وصدَّقَه العملُ )) .
[مصنف أبي شيبة ، والبيهقي في شعب الإيمان]
        بنية المؤمن بنية عالية الإيمان ، مرتبة علمية ، ما اتخذ الله وليا جاهلا ، لو اتخذه لعلّمه ، فالمؤمن مستقيم على أمر الله ، وكفاك بالاستقامة علما ، فَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ :
(( كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهلا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ )) .
[شعب الإيمان للبيهقي ، حلية الأولياء]
        فالإيمان مرتبة علمية لا يمكن لإنسان مستقيم إلا أن يكون على شيء من العلم ، عرف أن له رباً ، عرف أن هذا يجوز ، وهذا لا يجوز ، هذا حق ، وهذا باطل ، هذا خير ، وهذا شر ، هذا سأحاسب عليه ، وهذا لا أحاسب عليه ، هذا مباح ، هذا فرض ، هذا حرام ، هذه سنة مؤكدة ، غير مؤكدة ، مستحب ، مكروه كراهة تنزيهية ، كراهة تحريمية ، فهذا المستقيم على أمر الله على جانب من العلم قطعا ، فالإيمان مرتبة علمية ، أو لقب علمي ، وفي الوقت نفسه مرتبة أخلاقية ، فإذا قلت : مؤمن أخلاقي أيْ مؤمن صادق ، مؤمن مستقيم ، مؤمن منصف ، مؤمن لطيف ، فالإيمان مرتبة أخلاقية ، ومرتبة جمالية ، المؤمن له أذواق ، وله سعادة ، لا يعرفها إلا من ذاقها ، لأن ربنا عز وجل يتجلى على قلبه تجليات الرحمة ، فقلبه مفعم برحمات الله عز وجل ، لذلك فهذه الآية تفيد أنه لا ينبغي أن يقترن الزاني إلا بالزانية ، أما أن يتزوج الزاني العفيفة ، أو أن تتزوج العفيفة بالزاني ، فهذا من بعض المعاني محرم ، ومن بعض المعاني غير مقبول ذوقا ، ومن بعض المعاني لا يقع في العادة .
 
آية القذف : حِكمتُها وأحكامها :
          الآن عندنا آية سماها العلماء آية القذف ، كيف لو أنك أمسكت بحجر كبير ، وقذفت به إنسانا على رأسه ، فأرديته قتيلا ، فالذي يتهم امرأة عفيفة مسلمة بالزنى كأنه رماها بحجر ، فهشم رأسها ، لأن المرأة أثمن ما تملكه سمعتها ، وعرضها ، فإذا رميتها بالزنى فكأنك رميتها بحجر أصاب منها مقتلاً ، لذلك لو أن الشرع تساهل في أمر القذف لصارت أعراض الناس كالكلأ ، ترعاه البهائم ، فكل إنسان متهم في عرضه ، وكل امرأة متهمة ، فالإنسان يشك أحيانا أن هناك حالات لو أن الإنسان افترى على امرأة مسلمة عفيفة ، واتهمها بالزنى ، وتناقل الناس هذا الخبر حتى وصل إلى ذويها ، وكان في أهلها أناس منفعلون ، لهم انفعال شديد ، ربما أقدموا على قتلها ، وهي بريئة ، فدرءاً لهذه الفتن ، ودرءاً لهذه السمعة السيئة ، ودرءاً لهذا التشكيك في أعراض الناس ، ودرءاً لهذا الخراب في البيوت ، ودرءاً لهذا الإرجاف في المدينة ، درءا لهذا كله شرع الله سبحانه وتعالى حد القذف ، فقال تعالى :
 
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
 

(سورة النور)
معنى الرمي :

 

 

 
       الرمي في أصل اللغة القذف بشيء صلب ، فربنا عز وجل حكيم في كلامه  ، فلم يقل : والذين يرمون المحصنات بالزنى ، لأن سياق الآيات عن الزنى :
 
]الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَاِنَيًة أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنينَ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[ .
 
تعريف المحصَنة :
    المحصنات صفة مشتقة من الإحصان ، والإحصان هو المنع ، والمحصَن بالفتح هي المرأة أو الرجل الذي يمتنع عن الزنى لعفته ، ولعلمه ، ولشرفه ، ولعقله .
    1 – الإحصان بالعفاف :
    قال العلماء : الإحصان بأربعة أشياء : الإحصان بالعفاف ، فالعفة إحصان .
2 – الإحصان بالإسلام :
    هناك إحصان بالإسلام ، فالمسلم محصن .
3 – الإحصان بالحرية
    هناك إحصان بالحرية .
4 – الإحصان بالتزويج
وهناك إحصان بالتزويج ، فالمتزوج محصن ، والمسلم محصن ، والعفيف محصن .
 
معنى الإحصان في الآية :
 
لكن هنا الإحصان يغلب عليه معنى العفة من أن يزني ، فربنا سبحانه وتعالى قال :
]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[
الرمي فعل مادي ، فالكلمة قد تكون غير مادية ، لكن ربنا عز وجل جسد الحادثة بشكل مادي ، وكأن هذا الذي يرمي المرأة العفيفة الطاهرة قد أمسك بحجر كبير ، ورماها به ، فهشم رأسها ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ قَذَفَ مُحْصَنَةً يَهْدِمُ عَمَلَ ثَمَانِينَ سَنَةٍ )) .  
[الفردوس بمأثور الخطاب عن أبي هريرة]
 
صور القذف :
 
        والآية تنص على أن الذي يرمي امرأة ، الرامي رجل ، والمرمي امرأة ، لكن العلماء قالوا : هذه الآية تتسع لأربع صور :
1 – الصورة الأولى : رميُ الرجلِ المرأةَ :
2 – الصورة الثانية : رميُ المرأةِ الرجلَ :
3 – الصورة الثالثة : رميُ الرجلِ الرجلَ :
4 – الصورة الرابعة : رميُ المرأةِ المرأةَ :
 
قد يرمي رجل امرأة بالزنى ، وقد ترمي امرأة رجلا بالزنى ، وقد يرمي رجل رجلا بالزنى ، وقد ترمي امرأةٌ امرأةً بالزنى ، فكل هذه الحالات تنطبق عليها هذه الآية ، فلو أن امرأة اتهمت رجلا بالزنى لأقيم عليها الحد ، وجلدت ثمانين جلدة ، ولو أن امرأة اتهمت امرأة أخرى بالزنى لجلدت ثمانين جلدة ، ولو أن رجلاً اتهم آخر بالزنى لجلد ثمانين جلدة ، فموضوع القذف يشمل كل الحالات : امرأة رجل ، رجل امرأة ، امرأة امْرأة ، رَجل رجل ، لكن لو أن إنسانا فاجرا من عادته أن يزني ، وهو لا يتورع عن الزنى ، بل لا يتورع أن يخفي ذلك عن الناس ، ورميتَه بالزنى فلا حد عليك ، لأن الفاجر كما قال الحسن :
((ثلاثةٌ لا غيبةَ لهم ؛ صاحبُ هوى ، والفاسقُ المعلنُ ، والإمام الجائر)) .
[فيض القدير ، والتاريخ الكبير للبخاري]
         هذه ملاحظة .
 
]وَالَّذيِنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[ .
أيْ هؤلاء النسوة الطاهرات العفيفات المسلمات المؤمنات المحصنات ، هؤلاء الذين يرمون هؤلاء النسوة عليهم حد خطير .
 
متى يجب حدُّ القذفِ ؟
 
]ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[ .
متى يستوجب حد القذف ؟ أن يقذف الرجل امرأة ، ويعجز على أن يأتي بأربعة شهداء .
        أولاً : ربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
الحكمةُ مِن شهادة الرجل دون المرأة في الحدود :
 
]بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[ .
وما قال : بأربع شهداء ، لو قال بأربع شهداء لقبلت شهادة المرأة في الزنى ، لكنه في الحدود ، في حد الزنى ، في حد السرقة ، في حد الخمر ، في الحدود ، لا تقبل شهادة امرأة في المعاملات العادية :
 
]فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ[ .
[سورة البقرة : الآية 282]
لأن هذا الحد خطير قد يكون هناك رجم ، قد يكون هناك جلد ، فيه فضيحة ، فيه تشهير ، لابد من أن يكون أولاً أربعة شهود ، في بعض الحالات يكفي شاهد واحد ، هذا موضوع الشهادة موضوع طويل ، في الفقه حالات بالتعامل يكفي شاهد واحد ، وفي حالات لابد من شاهدين ، لكن في حالة الحدود لابد من أربعة شهداء ، وأن يكونوا حصراً من الرجال ، الآن من قذف ذمية - غير مسلمة - بالزنى ، ولها ولد مسلم يقام عليه حد القذف مراعاة لابنها المسلم ، لأن هذا الذي يرمي ذمية بالزنى سبب العار لابنها ، ومن قذف ذمية لها زوج مسلم يقام عليه الحد مراعاة لزوجها ، فهناك دقة بالغة في الأحكام الشرعية .
 
]وَالَّذيِنَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ[ .
 
الشروط الواجب توفرها في الشهود :
 
البلوغ والعقل والاختيار والعدالة والعلم بالتحريم
 
من هنا يبدو أن الإنسان الذي يرمي يجب أن يكون بالغاً ، ولا بد أن يكون عاقلا ، فلو أن مجنونا قذف امرأة لم يُقَمْ عليه الحد ، ولا بدمن أن يكون مختاراً ، لو أكره على أن يقول كذا وكذا لم يُقَمْ عليه الحد ، ولا بد أن يكون عالما بالتحريم ، يجب أن يكون بالغا ، عاقلا ، مختارا ، عالما بالتحريم حتى يُعَدَّ موضعا لإقامة الحد ، فالآيات الكريمة تكون موجزة ، لكن الفقهاء بمقارنة هذه الآيات مع آيات أخرى متعلقة بشروط التكليف استنبطوا هذه القواعد ، قال العلماء : من يقذف صبيا ، ويتهمه بالانحراف الأخلاقي أقيم عليه حد القذف ، لأن هذا الصبي له أهل ، وسمعة ، فلمجرد أنك رأيته خرج من بيت قد يكون بيت أخته ، فمن أجل أن يكون الإنسان دقيقاً جداً لا يستطيع أن يشيع خبر الزنى ، أو الانحراف إلا إذا كان متأكدا من أربعة شهود ، وألا يقام عليه حد القذف .
وفي الدرس قبل الماضي ذكرت لكم كيف أن امرأة كانت تغسل امرأةً ميتا ، وفجأة التصقت يدها في جسد ، حيث استحال أن تنزع هذه اليد عن هذا الجسد ، وحار أهل الميت ؛ أيقطعون جزءاً من لحمه ، أم يقطعون يد الغاسلة ، وقالوا كما هو معروف : لا يفتى ومالك في المدينة ، عرضوا على الإمام مالك هذه الواقعة فقال : هذه الغاسلة اتهمت المرأة الميت بالزنى ، ولذلك اجلدوها ثمانين جلدة ، ويروى أنه مع الضربة الثمانين نزعت يدها من جسد الميت ، فالإمام الغزالي في الإحياء يقول : "هناك غيبة القلب" ، فالإنسان لو لم ينطق بلسانه فهناك حالات إذا حدثته نفسه بكذا باطلا ، وظلما فلابد أن يعاقب ، لأنه من أحسن الظن بأخيه فكأنما أحسن الظن بربه ، ومن حق المسلم على المسلم أن يصون دمه ، وماله ، وألاَّ يقع فيه بغير بينة ، فهؤلاء الشهود يجب أن يكونوا من أهل الشهادة ، وتعلمون أن رواية الحديث علمتنا علماً دقيقاً ، هو أنه لا يصح لإنسان أن يروي الحديث الشريف ما لم يكن عدلا ، وثقة ، الثفة والعدل ، العدل والأهلية ، العدالة صفة نفسية ، تعني أنه لا يكذب ، والدقة ، والثقة ، والضبط صفة عقلية ، فمن أجل أن تروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد أن تتأكد من أن هذا الإنسان يتمتع بالعدالة ، وبالضبط .
 
اختلاف الأئمة في شرط العدالة :
 
أما موضوع الشهادة بين الناس في أحوال الناس ومعايشهم فقال العلماء : " يكفي أن يكون هؤلاء من أهل الشهادة " ، ومن هم أهل الشهادة ؟ بعضهم قال : هم أهل العدالة ، أيْ إنسان لا يكذب ، إنسان ما جُرّب عليه كذب قط ، ما جربت عليه خيانة ، ما جرب عليه انحراف ، هؤلاء أهل الشهادة ، ولكن أن يكون الشهود من أهل العدالة ، أو لا يكونون ، فهذا موضوع خلافي بين الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي ، فإذا جئت بأربعة شهود شهدوا أن هذه المرأة زانية ، فهؤلاء الشهود ينبغي عند الإمام الشافعي أن يكونوا من أهل العدالة ، مستقيمين ، لكن الإمام أبا حنيفة لم يشترط أن يكون من أهل العدالة ، لأنه يصعب ذلك ، فلو فرضنا أننا نريد أن نحاسب الناس حساباً دقيقاً جداً لتعطلت الشهادة في العالم الإسلامي ، هذا رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله .
 
]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً[ .
لاحظوا حدَّ جريمة الزنى ، غير المحصن يجلد مئة جلدة ، وجريمة القذف يجلد القاذف ثمانين جلدة ، فهناك فرق بسيط جدا بين حد الزنى وحد القذف ، لأنكم تحسبونه هينا ، وهو عند الله عظيم .
 
ما يترتب على القذف :
 
1 - سقوط شهادة الشهود :
 
          ]وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا[ ، هذا عقاب آخر ، الحقيقة حد القذف ثلاثة أنواع ؛ أول نوع : الجلد على مرأى من الناس في ساحة عامة بين جمع غفير من المؤمنين ، والحد الثاني : ]وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا[، هي الآن تقريبا مثل شهادة السوابق - لا حكم عليه - محكوم بقذف امرأة محصنة ، فشهادته غير مقبولة ، وفَقَدَ حقه ، وفَقَدَ اعتباره ، ومكانته ، هذا محدود بحد القذف ، ويكتب على صحيفته : "محدود بحد القذف ، شهادته غير مقبولة" .
 
2 - دَمغُهم بالفسق :
 
]وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ .
وهؤلاء دمغوا بالفسق ، فلو أنك قلت : عنه إنه فاسق فلا شيء عليك ، ويجب أن يشيع بين الناس أنهم فاسقون ، ويجب أن ترفض شهادتهم ، ويجب أن يقام عليهم الحد .
 
]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ .
          لقد دمغ ربنا عز وجل هؤلاء بالفسق والفجور ، وأنك إذا قلت عنهم أنهم فاسقون فلا شيء عليك ، فالله سبحانه وتعالى بيّن أنهم فاسقون ، قولا واحدا .
 
هل ينصرف الاستثناء إلى الأقسام الثلاثة ؟
   
.]إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[
هذه الآية فيها دقة بلاغية ، وهي أن الاستثناء هل ينصرف إلى الأقسام الثلاثة ، فإذا قذف الإنسانُ امرأة محصنة ، ثم تاب هل يعفى من إقامة الحد ؟
الجواب :
لا ! لماذا ؟ لأن الحقوق في المجتمع الإسلامي نوعان حق الأفراد ، وحق الله عز وجل فلو أن المقذوف عفا ، وقال : أنا عفوت عنك ، لقد قذفت زوجتي ، والزوجة عفت فهل عفو الزوجة يمنع إقامة الحد ؟
الجواب :
        لا ! هذا حق الله عز وجل ، وليس حق المقذوفة ، فلو أن المقذوفة ماتت قبل أن يقام على المقذوف الحد هل يعفى من الحد ؟ لا ! في النظام الغربي جريمة الزنى لا يمكن أن تحرك بها قضية في القضاء إلا بطلب من الزوج ، أو من المزني بها ، فلو أن الزوج أسقط حقه في المرافعة ، ولو أن المرأة أسقطت حقها لم تحرك دعوى ضد الزاني أبدا ، أما في الإسلام فهناك حق الله عز وجل ، فعفو المقذوفة لا يعفي القاذف من حد القذف .
إذًا :
 
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا [ .]
هذا الاستثناء لا ينسحب إلى القسم الأول .
 
]فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا[ .
لو أنهم تابوا فلابد أن يقع عليهم الجلد .
لكن القسمين الثاني والثالث ربما صلح أن ينسحب عليهم الاستثناء :
]إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا[ .
 
متى تُقبَل شهادة القاذف بعد توبته ؟
    هؤلاء إذا تابوا يمكن أن تقبلوا لهم الشهادة ، لكن متى ؟ أوجه رأي قاله بعض العلماء :
 
1 – الاعتراف بافتراء التهمة :
         إن الذي يقذف امرأة محصنة لا يستعيد اعتباره الإسلامي في المجتمع إلا بعد أن يعترف بأنه كاذب بهذه التهمة ، الذين قال أمامهم جميعا يجب أن يعترف أنه كان كاذبا في هذا الموضوع ، إذا قال القاذف : إنه كان كاذبا ، وإن هذه المرأة التي اتهمها بالزنى هي امرأة بريئة عفيفة حَصان .
2 – مُضيّ عام لإثبات صلاحه :
ويجب أن يمضي عليه عام حتى يثبت صلاحه ، بعدئذ تقبل شهادته ، ولا تقبل شهادة القاذف إلا بعد أمرين ؛ أن يعترف بأنه كاذب ، وأن يصرح بأن هذه المرأة التي اتهمها بالزنى امرأة عفيفة ، وأن يمضي عام بأكمله يثبت للناس صلاحه ، عندئذ يسترد حقه في الإدلاء بالشهادة تطبيقا لهذه الآية :
 
]إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا[ .
وقد حمل بعض العلماء أن يقول للناس : إنه كاذب ، وإن هذه المرأة شريفة وعفيفة من قوله تعالى :
]وَأَصْلَحُوا[
 
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
(سورة النور)
          أما أن ينسحب الاستثناء على الآية القسم الأخير :
 
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ .]
فهذا قول ثابت ، فالاستثناء إما أن ينسحب على آخر جزء ، وإما أن ينسحب على كل الأجزاء ، فانسحابه على آخر جزء قطعي ، فحينما يتوب الإنسان ، ويصلح لم يعد فاسقا ، لكن هل تقبل شهادته ؟ تقبل بعد الإصلاح ، بعد أن يعترف بكذبه ، ويعترف بطهارة هذه المرأة ، وبعد أن يمضي عام يثبت صلاحه ، أما الجلد فلا يتعلق بهذا الاستثناء أبدا لو تاب .
          لو أنه تاب إلى الله توبة نصوحا فلا بد أن يقوم عليه حد الجلد ، أو حد القذف ، لأن هذا حق الله عز وجل ، كل العلماء انقسموا حول هذه الآية قسمين : بعضهم غلّب حق الله على حق العبد المقذوف ، وبعضهم غلّب حق المقذوف على حق الله ، لكن الذين غلبوا حق الله على حق العبد المقذوف كانوا أقرب إلى الحقيقة ، لأن الله سبحانه وتعالى ولي الذين آمنوا ، فهذا المقذوف عفا أم لم يعف فلابد أن يقام عليه الحد ، فالإنسان دقيق ، فالناس أحيانا في سهراتهم ونزهاتهم ولقاءاتهم يتحدثون عن فلانة ، وعن فلانة ، فلو كان الإنسان يحاسب حساباً دقيقاً وفق هذه الآية يجب أن يجلد معظم الناس ، كيف تخوض في أعراض النساء ، كيف تتهم فلانة أنها زانية ، كيف تشير بإصبعيك ، كيف تنفض ثوبك وتقول : لا أدري ، هذا قذف أساسا ، القذف ليس باللسان فقط ، باللسان ، وبالحركة ، وبالعبارة .
 
جلد الشهود عند عدم استكمال الأربعة :
 
          لو أن هذا القاذف تمكن أن يحضر ثلاثة شهود على أن هذه المرأة زانية يقام عليه الحد ، ويجلد الشهود على أنهم قاذفون أيضا ، فيجب أن يكونوا أربعة ، فإذا كانوا ثلاثة يُجلَدون كلهم ، فهذا كان شاهداً ، فلما لم يستكمل النصاب أصبح قاذفا ، ويقام عليه حد الجلد صونا لحق المرأة العفيفة .
          ثلاثة شهود جاؤوا ليدلوا بشهادتهم ، إذاً يبطحون على الأرض ، ويجلدون ، لأن الرابع لم يأت معهم .
أما كلمة :
]فَاجْلِدُوهُمْ[ .
 
إقامة الحدود منوطة بالسلطان حصرًا :
 
فكما قلنا في الدرس الماضي هذا خطاب موجه إلى عامة المسلمين ، ممثلين في أولي الأمر ، فليس على آحاد المسلمين أن يقيموا هذا حد الجلد ، هذا الحد من اختصاص أولي الأمر ، وليس من اختصاص آحاد المسلمين أن يمسك السياط ، ويضرب زانيا أو قاذفا ، بأنك تريد أن تقيم حد الجلد ، أو حد القذف ، هذا كلام مرفوض ، لا يقيم حد القذف إلا أولو الأمر لقوله تعالى :
 
 
]فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً[ .
         كما قلت قبل قليل : لو أن أولي الأمر وصل إلى علمهم أن فلانًا يقذف فلانة ، ويتهمها بالزنى فعليهم أن يقيموا الحد ، سواء أطلب المقذوف ذلك أم لم يطلب ، الذي يهمنا من هذه الآية أن المجتمع الإسلامي يجب أن يكون نظيفاً ، بل يجب أن تكون الثقة شائعة فيه ، فلو سمحنا للناس أن يتهم بعضهم بعضا من دون قيد أو شرط لأصبح الشك هو الأصل ، نحن عندنا قاعدة أساسية : الإنسان بريء ما لم يتهم ، فالأصل أن الإنسان بريء ، والأصل أن الإنسان عفيف ، وأن الإنسان طاهر ، وأنه مستقيم ، فإذا أردت أن تتهمه فيجب أن تقيم على ذلك الدليل القطعي ، وإلا فهناك عقاب وبيل ، فهذه الآية تردع الناس عن أن يلغطوا في أعراض المسلمين والمسلمات وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)) .
[أخرجه الترمذي ، ابن ماجه]
          لكن ثمة حالات سوف نراها في الدرس القادم ، فاجأ زوجته فإذا هي في موضع الزنى ، فهل عليه أنْ يُحضر أربعة شهداء ؟! هذا مستحيل ، لذلك عندنا آية اسمها آية الملاعنة ، هذه نشرحها إن شاء الله تعالى في الدرس القادم .
 
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ¯وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ¯وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ¯وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
[سورة النور : 6-9]
 
تحريم رواية أخبار اللقاءات وقصص الخلاعة :
 
 
          بقيت نقطة واحدة ، وهي أن الإسلام من خلال هذه الآية حرم قذف المحصنات توصلا إلى تحريم رواية أخبار اللقاءات ، والزنى ، وما شاكل ذلك ، هذه الأخبار من شأنها إذا شاعت بين الناس أن تشجع الناس على الزنى ، فرواية الأخبار في البلاد الأجنبية هذه الموضوعات تطرق في وسائل الإعلام ، في الصحف ، في المجلات كثيرا ، إلى أن يظن الإنسان أن هذا شيْء مألوف ، ليس من آداب المسلم ترويجُ قصة إذا كان بالحارة ، وسمع بقضية زنى ، بقضية لا أخلاقية ، ولو كان بشكل صحيح ، بشكل غير مبالغ به ، هذا يلفت نظر الشاب ، أحيانا يدخل في روعه أن الناس هكذا ، أن هذا الشيء مباح ، فلئلا تكون هذه القصص منتشرة ورائجة في المجتمع الإسلامي جُعل حد القذف ، غير أنه صونًا للأعراض وللأنساب ، ودفعا للشك ، والريب ، وصونًا للدماء من أن تهدر ظلماً ، عندنا شيء ثانٍ ؛ هذا الموضوع لا ينبغي أن يروج بين الناس ، العلاقات الزوجية ، موضوع فلان وفلانة ، فلان دخل بيتا ، كان في خلوة مع فلانة ، فمثل هذه الكلمات من شأنها أن تثير العواطف ، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عَنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ قَالَ :
((كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ ، فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي ، فَقَالَ لِي رَسُولُاللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا)) .
[أحمد ، الطبراني في المعجم الكبير ، البيهقي في السنن الكبرى]
فأيُّ كلمة أخرى غير هذه قد تثير الإنسان !!!
         قال تعالى :                         
 
]وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[ .
(سورة المؤمنون : الآيات 3-7)
          فهذه الآية من فوائدها أنها تنهى عن الخوض في هذه الموضوعات كليا ، وإذا خاض الإنسان فيها ظلما فلابد من حد القذف الذي يقترب من حد الزنى .
 
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب