سورة الكهف 018 - الدرس (7): تفسير الآيات (60 – 82) ، قصّة سيّنا موسى مع الخضر

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات

"> سورة الكهف 018 - الدرس (7): تفسير الآيات (60 – 82) ، قصّة سيّنا موسى مع الخضر

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات

">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 273 - مقبرة باب الساهرة2           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 11 - يد الله تعمل في الخفاء - د.عمر عبدالكافي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية-437-المسلم صاحب همة عالية-الشيخ صالح المعطان           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 392 - سورة المائدة 009 - 012           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الكهف

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة الكهف - (الآيات: 60 - 82)

05/05/2011 14:40:00

تفسير سورة الكهف (018) 
الدرس (7)
تفسير الآيات (60 – 82)
قصة سيدنا موسى مع الخضر
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

بسم الله الرحمن الرحيم
 
          الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
          أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس السابع من سورة الكهف ، ونحن الآن في القصة الثالثة ؛ قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام ، وقبل الدخول في تفصيلات هذه القصة أريد أن أقدم لها ببضع حقائق تعين على فهمها .
حقائق بين يدي قصة موسى مع الخضر 
 
الحقيقة الأولى : علم الحقيقة وعلم الشريعة :
          الحقيقة الأولى : أنه لما عرض الله على الإنسان الأمانة قبلها ، ومعنى قبلها أي أنه كلف بمعرفة الله ، والسير على أمره ، والتقرب منه  ليسعد في الدنيا والآخرة ، وحينما قبل الأمانة منحه الله إرادة حره ، وعقلاً مفكراً ، ونصب له آيات في أرجاء الكون ، وأنزل له الكتاب ، أي أنزل له التشريع ، والتشريع ضوابط في العلاقات بين العبد وربه ، وبين العبد والعبد ، وقد نزلت هذه الشرائع تباعاً على أنبياء الله ورسله .
          فسيدنا موسى عالم بالشريعة يعرف الحلال والحرام ، ما يجوز ، وما لا يجوز ، ما ينبغي ، وما لا ينبغي ، والأمر والنهي ، والحق والباطل ، والخير والشر .
الحقيقة الثانية : وجوب انضباط أفعال العباد بالشرع :
          يجب أن تضبط أفعال العباد بالشريعة ، وسيدنا موسى نبيٌ عظيم ، ورسول كريم من أولي العزم ، وهو أعلم علماء الأرض في وقته في الشريعة ، لكن الله سبحانه وتعالى يتصرف في الكون ، ويتصرف مع عباده تصرفاً لا يعلم حكمته إلا الله ، أي لا يعلم سر القضاء والقدر إلا الله ، فسر التصرفات الإلهية ، وحكمة الأفعال الإلهية علم مستقل قائم بذاته ، فقد آتى الله سيدنا الخضر ، وهو نبي في رأي معظم العلماء عليه السلام ، من لدنه علماً ، فكأن هذه القصة لقاء عظيم رائع ، بين قطب عظيم من أقطاب الشريعة ، وقطب عظيم آخر من أقطاب الحقيقة ، فنحن مع سيدنا موسى مع قطب من أقطاب الشريعة ، ونحن مع سيدنا الخضر قطب من أقطاب الحقيقة .
          والشريعة والحقيقة التقتا ، ومن خلال هذا اللقاء العظيم تتضح بعض الحقائق المهمة التي نحن جميعاً في أمس الحاجة إليها ، ومن لقاء قطبي الشريعة بالحقيقة تتضح بعض أسرار القضاء والقدر ، ومنها نعرف معنى قوله تعالى :
]وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [.
(سورة البقرة : 216)
          كأن ملخص هذه القصة تلك الآية :
] وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ .
          يجب أن تضبط أفعال العباد بالشريعة ، لكن أفعال الله عز وجل تفسر بالحقيقة .
          ويجب أن تكون أفعال العباد وفق الحلال ، والمباح ، والمندوب ، والأمر ، ويجب أن تبتعد عن المكروه ، والمحرم ، هناك شريعة دقيقة جداً ، فيها حكم كل شيء ، كل حركة ، وكل سكنة ، وكل تصرف ، وأية علاقة تضبطها الشريعة ، لكن أفعال الله عز وجل علم التصرفات الإلهية ، وسر القضاء والقدر ، فعلم الحقيقة يكشف لنا جانباً منه .
          ففي لقاء هذين النبيين العظيمين لقاء سيدنا موسى مع سيدنا الخضر تتضح حقائق كثيرة من علم الحقيقة .
سبب ورود قصة موسى مع الخضر 
 
          ورد في بعض الأحاديث الشريفة عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ ؟ قَالَ مُوسَى : لَا ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى : بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً ، وَقِيلَ لَهُ : إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ ، وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ : ] أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [ ، ] قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [ ، فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ )) .
[متفق عليه]
        سيدنا موسى نبي مرسل ، ومادام نبياً مرسلاً فهو بالبديهة أعلم علماء الأرض ، فما كان من هذا النبي العظيم إلا أن قال : أنا أعلم علماء الأرض ، فأوحى الله إليه ما أوحى .
 
 
﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ﴾
        ليس أعلم منك مطلقاً ، أعلم منك في علم الحقيقة ، وأنت أعلم منه في علم الشريعة ، ينبغي أن تقول : أنا في هذا العلم ، قد علمني ربي ، هذا ما ورد في بعض الأحاديث أن الله عز وجل أراد أن يُعلمه ، وأن يُعَلمه أن في الأرض عبداً صالحاً آتاه الله رحمة من لدنه ، وعلمه من لدنه علما هو أعلم منك .
        فما كان من هذا النبي العظيم إلا أن سأل الله عز وجل : يا رب ، كيف ألتقي به حتى أتعلم منه ؟
بداية القصة : خروج موسى مع فتاه طلبًا للقاء الخضر:
 
الآن بدأت القصة :
 
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ﴾
فتاه ؛ أي فتى صاحب سيدنا موسى ، ليتعلم منه ، وليخدمه ، فكان في الوقت نفسه خادماً ومتعلماً .
 
 
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾
        لا أبرح أسير إلى أن أصل إلى مكان حدده الله عز وجل ، حينما أوحى الله إلى سيدنا موسى قال : يا موسى تلتقي مع الخضر ، مع هذا العبد الصالح في مجمع البحرين ، وما دام الله عز وجل قد أخبر سيدنا موسى أن هذا العبد الصالح يراه في مجمع البحرين ، عندئذٍ قال هذا النبي العظيم : لا أبرح ، أمشي ، وأبحث ، وأسير .
 
 
﴿ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ﴾
        وإن لم أبلغ هذا المجمع :
 
 
﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾
        سأسير حقباً طويلة ، سنوات وسنوات ، إلى أن ألتقي بهذا العبد الصالح .
من دلالات خروج موسى للقاء الخضر : فضل العلم:
 
        انظروا أيها الإخوة ، كم هو ثمين هذا العلم في نظر هذا النبي العظيم ، أحدنا يصرف نفسه عن حضور مجالس العلم لسبب تافه جداً ، يقول : عندي موسم ، أو زارني ضيف ، فهو لسبب تافه يصرف نفسه عن حضور مجالس العلم التي هي مجالس الذكر .
        وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يذكرون الله فيه إلا غشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، وما اجتمع قوم في مجلس فلم يذكروا الله فيه إلا قاموا عن أنتن من جيفة .
 
 
 ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾       
        وكانت علامة هذا المكان فيما أوحى الله لهذا النبي العظيم أن يفتقدا حوتاً لهما كانا قد أعداه للطعام ، إذا افتقداه في مكان ما ، فهذا المكان مكان اللقاء بالعبد الصالح .
 معنى : مَجْمَعَ البَحْرِيْنِ
 
 
 
﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾
المعنى الأول :
        يعني مجمع البحرين .
المعنى الثاني :
        وبعضهم قال : مجمع البحرين يعني اجتماع بحري الشريعة والحقيقة ، هذا وجه من وجوه التسمية ، اجتماع بحري الشريعة والحقيقة .
 
 
﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾
        كانا قد أعدا حوتاً ، وجهزاه للطعام ، ووضعاه في حقيبة إن صح التعبير ، ووضع هذا الحوت في مجمع البحرين ، وفي بعض الأقوال غير الثابتة أن مجمع البحرين مكان التقاء البحر الأحمر ، والبحر الأبيض المتوسط ، فهما مجمع البحرين .
 
 
﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾
        نسي سيدنا موسى أن يتفقد الحوت ، ورأى فتاه من الحوت منظراً عجيباً نسي أن يخبر سيده موسى ، هذا الحوت .
 
 
﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾
معنى : فَاتَّخََذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبًا
 
 المعنى الأول :
قال بعض المفسرين : " هذا الحوت وقع في البحر " .
المعنى الثاني :
وقال بعضهم : " كانت معجزة أن عادت له الحياة فسقط في البحر ، وعاش فيه ، رأى الفتى الذي رافق سيدنا موسى هذا المنظر فالحوت ، فإما أنه وقع في البحر ، أو أنه عادت له الحياة فوثب في البحر ".
 
 
﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾
        وقد تكون عودة الحياة إلى الحوت ، ووثوبه إلى مياه البحر أيضاً علامة من علامات اللقاء مع العبد الصالح .
 
 
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا ﴾
        أنساهما الله عز وجل سقوط الحوت في البحر .
من استنباطات الآية:
 
الاستنباط الأول : إعداد الزاد للسفر :
 
        لذلك استنبط العلماء أنه يجوز ، بل يندب لمن أراد السفر أن يعد الزاد ، وليس في إعداد الزاد تناقضاً مع التوكل ، اعقل وتوكل ، واستنبط العلماء أيضاً وجوب الرحلة في طلب العلم ، كيف أن هذا النبي العظيم قال :
 
 
﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾
        أراد أن يصل ، أن يسافر من أجل لقاء هذا النبي العظيم .
 
 
﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾
الاستنباط الثاني : المشقة في طلب العلم :
        يعني تعبا ، تعبنا أين الطعام يا فتى ؟ عندئذ تذكر هذا الفتى أن الحوت الذي قد أعداه للطعام سقط في البحر .
 
 
﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾
 
كيف اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا ؟!!!
 
        ليس في الآية قرينة على أن الحياة قد عادت له ، لكن هناك آية تالية تشير من طرف خفي إلى أن هناك شيئاً عجيباً ، كيف وقع هذا الحوت في البحر ، من هنا استنبط العلماء أنه ربما عادت الحياة إلى الحوت بعد شيِّه ، ووثب في البحر .
                قال الغلام :
 
 
﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ﴾
 
كيف اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبًا ؟!!!
 
واتخذ الحوت سبيله في البحر عجبا ، هناك شيء عجيب ، وخارق للعادة ، أن حوتاً مشوياً ، أي سمكةً مشويةً تعود لها الحياة ، وتثب في البحر ، والله أعلم ما إذا كانت الحياة قد عادت لها أو لم تعد ، لكن الشيء الثابت أن الحوت قد اتخذ سبيله في البحر ، عندئذ عرف سيدنا موسى أن هذا المكان الذي نسيا فيه الحوت هو مجمع البحرين ، وهو مكان اللقاء المنتظر .
 
 
﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾
 
فقدان الحوت أمارة مكان اللقاء:
 
ذلك ما كنا نبتغي من هذا السفر الطويل ، وهذا هو الهدف ، لأن المكان الذي افتقدنا فيه الحوت هو مكان اللقاء كما أخبره الله بالوحي .
 
 
﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾
 
        بعد أن قطعا يوماً وليلة بعيداً عن مجمع البحرين ، وعن مكان سقوط الحوت في البحر ، ارتدا ، وعكفا راجعين إلى مكان افتقاد الحوت ، لأن هذا المكان هو مكان اللقاء المنتظر الذي يحرص عليه سيدنا موسى عليه وعلى نبيناً أفضل الصلاة والسلام ، وكما وعده الله عز وجل ، وكما أوحى إليه في هذا المكان مكان افتقاد الحوت ، مجمع البحرين .
 
 
﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا ﴾
العبودية أعلى مرتبة للإنسان :
 
أعلى مرتبة ينالها الإنسان في الحياة الدنيا أن يكون عبداً لله ، وأن تتحقق فيه العبودية لله عز وجل ، والعبودية معرفة يقينية ، تفضي إلى طاعة طوعية ، تنتهي إلى سعادة أبدية ، معرفة يقينية ، فطاعة طوعية ، فسعادة أبدية .
 
 
﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ﴾       
كيف تكسب العلم ؟
 
العلم يكتسب بالمدارسة ، والمطالعة ، وحضور مجالس العلم ، والتأمل ، والتفكر ، فإذا حاز الإنسان العلم بالأسباب فهذا العلم الذي نعرفه جميعاً ، أما العلم الذي يحوزه الإنسان من دون أسباب أرضية هو العلم اللدني ، فهذا العبد الصالح ، آتاه الله رحمة من عنده ، وعلمه من لدنه علما .
هل الخضر عليه السلام نبيُّ ؟
 
          هناك إشارات ، ودلالات كثيرة يقينية على أن سيدنا الخضر عليه السلام نبي ، إما أنه نبي مرسل ، أو غير مرسل ، هذا موضوع خلافي ، وبعض العلماء يظنونه ولياً ، فهو بين أن يكون ولياً ، أو نبياً مرسلاً ، أو نبياً غير مرسل ، هناك قرائن ستأتي بعد قليل تبين أن هذا الإنسان العبد الصالح كان نبياً .
 
  
 ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ¯قَالَ لَهُ مُوسَى ﴾     
مِن آداب طالب العلم : التواضع والأدب مع الشيخ :
 
        بأدب جم ، نبيٌ مرسل ، ومع ذلك يتأدب مع من أعلمه الله أنه أعلم منه ، وفوق كل ذي علمٍ عليم ، والأدب مع من يعلمك من لوازم التعليم ، وقد قال بعض العلماء لبعض الطلبة : يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك .
 
 
﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾
        الاستفهام فيه أدب ؟ هل تسمح لي بالتعلم ، الاستفهام فيه أدب ، ولم يقل : أنا سأتبعك ، فيجب أن تعلمني .
 
 
﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾
 
        فقال سيدنا الخضر :
 
 
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
 
يبدو أن سيدنا الخضر يعلم أن سيدنا موسى لا يصبر عليه ، وأنه عالم بالشريعة ، وأن الأفعال التي سوف يفعلها هذا العبد الصالح ربما لا تفسر في ضوء الشريعة ، هل في الشريعة أمر أن تقتل غلاماً بلا سبب ‍‍، حاشا لله ، هذا لا يتوافق مع الشريعة ، فقال له :
 
 
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾
 
        علمك الشرعي لا يسمح لك بتفسير أعمالي ، ومزاجك العصبي لا يسمح لك بالصبر .
                ورد في بعض الكتب عن الشيخ محي الدين أن سيدنا الخضر قد أعد لهذا النبي العظيم ألف مسألة ، فلما كانت الثالثة فقد سيدنا موسى صبره ، عندها قال عليه الصلاة والسلام :
(( يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى ، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا )) .
[البخاري ومسلم عن أبي بن كعب]
 
 
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾
 
        لم يقل : إنك لن تستطيع معي كمال الصبر ، بل قال : صبرا ، على التنكير ، أي ولا تستطيع حتى الجزء البسيط من الصبر ، ثم بيّن العلة :
 
 
﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾
بيان علة عدم صبر موسى :
 
يتناقض العمل في ظاهره مع الشريعة ، وأنت عالم بالشريعة ، وأنا عالم بالحقيقة ، هناك تناقض بيني وبينك .
 
 
﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾
        ما كان من هذا النبي الكريم إلا أن أظهر الجلد ، والصبر ، والعزيمة على متابعة هذا العبد الصالح كي يتعلم منه ، فقال :
 
 
﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾
انظر إلى الأدب مع الله عز وجل ، الاستثناء ، إن شاء الله .
من استنباطات الآية : الصبر على طلب العلم :
 
          استنبط العلماء من هذه القصة أنه ينبغي على الذي يحضر مجالس العلم أن يصبر ، وألا يعترض ، وأن يتأدب .
 
 
﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ¯قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي﴾
شرط الخضر في قبول اتباع موسى له :
 
شرط :
 
 
﴿ فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾
        انظر واسكت ، اتبعني ولا تعترض ، ولا تبادر بالسؤال ، فأنا سأخبرك عن كل شيء .
 
 
﴿ فَانْطَلَقَا ﴾
        انطلقا ليعرفا الحقيقة ، وبعضهم قال : انطلقا من عقال المادة .
 
 
﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾
خبرُ ركوبِ موسى مع الخضر السفينةَ :
 
        تروي بعض الكتب أنهما ركبا في سفينة لمساكين ، لأناس فقراء ، وأن عصفورين وقفا على طرف السفينة ، وغمسا منقاريهما في الماء غمستين ، فقال الخضر لسيدنا موسى : ما علمي وعلمك في علم الله إلا كهاتين النقرتين في البحر ، أي بماذا يرجع هذا العصفور إذا غمس منقاره في البحر ؟ ما علمي وعلمك في جانب علم الله عز وجل ، إلا كهاتين النقرتين في البحر .
 
 
﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾
 
من استنباطات الآية : جواز ركوب البحر :
 
        واستنبط العلماء من هذه الآية جواز ركوب البحر .
خرق الخضر للسفينة وإنكار موسى عليه :
 
خرقها ، أي أمسك بقدوم ، وقلع من جدار السفينة لوحاً خشبياً ، وهذا عمل غير منطقي ، وغير معقول ، بالإضافة إلى أن صاحب السفينة رفض أن يأخذ منهما أجرة نوالاً ، أركبهما ضيافة بلا نوال ، وفوق هذا العمل الطيب ، والضيافة الكريمة جاء الخضر عليه السلام ، وأمسك قدوماً ، وكسر أحد ألواح السفينة ، واقتلعه ، فقد سيدنا موسى صوابه ، وقال:
 
 
﴿ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾
        هذا عمل غير صحيح ، ماذا فعل معك صاحب السفينة ؟ أهكذا تكافئه  على عمله الطيب ؟ استنبط العلماء هنا أن سيدنا موسى لم يقل هذا بدافع من حرص على حياته ، لا ، نسي نفسه قال :
 
 
﴿ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ﴾
        هذا العمل لا يمكن أن يقبل ، دعاك إنسان مسكين فقير إلى ركوب السفينة بلا مقابل ، وهو يكتسب من هذه السفينة ، ثم تخرقها له .
 
 
﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾
إمراً أي فظيعاً ، غريباً ، غير مقبول ، قال :
 
 
﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾
تذكير الخضر موسى بعدم صبره وشرطه عليه :
 
       
        لقد قلت لك : إنك لن تستطيع معي صبرا ، لأن الأعمال التي أعملها ، ليست خاضعة لعلم الشريعة ، إنما هي خاضعة لعلم الحقيقة ، أنت عالم بالشريعة ، وأنا عالم بالحقيقة .
        تذكر الوعد ، والاتفاق ، والعهد حين قال له الخضر عليه السلام :
 
 
﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾
هنا قال : أنا تسرعت ، ومعك الحق . 
 
 
﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾
        هذا أول درس ، شيءٌ عجيب ، تركب سفينة بلا نوال ، بلا مقابل ، ودعاك أصحابها المساكين إلى ضيافة كريمة ، ثم تقابل هذا الإحسان بالإساءة .
 
 
﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ ﴾
قصة قتل الخضر للغلام :
 
 
        تذكر الكتب أنه كان هناك غلمان يلعبون ، وبينهم غلام جميل جداً ، نظيف وهادئ ، فأخذه الخضر ، وذبحه ذبح النعاج ، فتفرق الأطفال من حوله ، وفزعوا ، عندئذ اشتد لسيدنا موسى الغضب وقال :
 
 
﴿ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾
 
إنكار موسى على الخضر قتلَه للغلام :
 
        لا بد أن يكون القتل قصاصاً ، نفسٌ بنفسٍ ، هذه جريمة ، ماذا فعل معك هذا الغلام ؟
 
 
﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾
مخالفة موسى لشرطه وتذكير الخضر له به :
 
          هذه مرة ثانية ، خرجت عن صوابك مرة ثانية ، تذكر هذا النبي العظيم أنه خالف العهد ، وخالف الاتفاق .
 
 
﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ﴾
        ليس لي عذر في المرة الثالثة .
 
 
﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾
دخول موسى مع الخضر القرية وطلبهما الاستضافة :
 
        كانا جائعين جداً ، وقال العلماء : يجوز لصاحب الحاجة أن يطالب بما يسدها .
 
﴿ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ﴾
 
 
        كانوا أهل قرية بخلاء لؤماء .
 
 
 
﴿ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ﴾
 
امتناع أهل القرية من ضيافة الخضر وموسى :
 
        امتنعوا عن إطعامهم ، نظر سيدنا موسى والخضر عليهما السلام إلى جدار عظيم كاد يتداعى .
 
 
 
﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾
 
إقامة الخضر للجدار المائل وطلب موسى منه أخذ الأجر :
 
        فشمرا عن ساعد الجد ، وبنيا هذا الجدار ، هذا موقف غريب ، في الموقفين الأولين ، عمل منكر ، أما هنا فقد رفض أهل القرية اللؤماء ، البخلاء الأشحاء أن يطعمونا الطعام ، وتبني لهم جداراً بلا مقابل ، ما هذا التناقض ؟ كأن الله عز وجل يريد أن يقول لنا : تصرفات الله عز وجل لها حكمة بالغة ، لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع ، قال : نحن جائعون :
 
 
 
﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾
 
فنشتري طعاماً فنأكل .
 
 
﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾
هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
       
        قال بعض العلماء : مقابلة الإساءة بالإحسان وارد في علم الشريعة ، فلماذا خالفت يا موسى شريعتك ؟ لماذا اعترضت عليه ؟ ولقد بنيت الجدار رداً على الإساءة ، قتل غلام بغير نفسٍ هذا خلاف علم الشريعة ، وخرق سفينة مقابل ضيافة كريمةً ، فهذا خلاف علم الشريعة ، ولكن أن نرد على الإساءة بالإحسان فهذا من علم الشريعة .
                ألم تسقِ للمرأتين في مدين بلا مقابل ؟ كيف تلومني على بناء هذا الجدار ؟ لأن أهل هذه القرية أساؤوا إلينا ، وأنت نفسك سقيت لامرأتين في مدين من دون مقابل .
 
 
﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾
مواقف موسى مع الخضر :
 
        ثلاثة مواقف ، خرق سفينة ، وقتل غلامٍ ، وبناء جدارٍ .
         
الأول :
 
 
﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾
والثاني :
 
 
﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ﴾
 
والثالث :
 
 
﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾
 
 
 
 
 
﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا ً﴾
 
ما يقاس على القصص الثلاث الواردة في سورة الكهف :
 
         استمعوا أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه القصص الثلاث ينبغي أن يقاس عليها كل شيءٍ يقع في الأرض .
] وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ .
***
و لرُبَّ نازلةٍ يضيق لها الفتى      ذرعاً وعند اللهِ منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها      فرجت و كنت أظنها لا تفرجُ
***
كن عن هـمومك معرضاً      كـل الأمور إلى القـضا
و بـشر بـخيرٍ عـاجلٍ       تنسى به ما قد مــضى
فيا رب أمـر مسخــط       لك في عواقبه رضــى
ويا ربما ضاق المضيـق       و لا ربما تسع الفضــا
الله يفعل مـا يشــاء        فلا تـكن مـــعترضا
الله عـودك الجميـــل       فقس على ما قد مضـى
 
          قال :
 
 
﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾
تفسيرات وحجج الخضر في أفعاله التي أنكرها موسى عليه :
 
        إن هؤلاء الناس مساكين ، مع أنهم يملكون سفينة ، ذلك لأنهم عيشون من دخلِها ، وإذا ملك إنسان بيتاً يسكنه فهو مستهلكه .
 
 
﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾
حجة إغراق السفينة :
 
أردت أن أجعل فيها عيباً .
 
 
 
﴿ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾
 
          كان الملك يُصادر كل سفينة أعجبته ، ويأخذها غصباً ، فحينما خرقتُها فوّتُ على الملك مصادرتها ، وأبقيتها لأصحابها ، يقتاتون من دخلها ، فما قولك ؟ أين الحمق ، والغضب ؟ هكذا يفعل الله عز وجل .
          أحياناً يلغى إيفاد الطالب إلى أوربا لعلامة واحدة ، فيغضب ، ويزمجر ، جعلتك هذه العلامة تبقى في بلدك ، ويبقى لك دينك ، لا تغضب ، فلكل شيء حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأحياناً يفسخ عقد الزواج لسبب تافه ، فقد يكون في هذه الزوجة الدمار والشقاء ، لا تغضب إذا جاءت الأمور كما تشتهي ، فقل : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإن جاءت على خلاف ما تشتهي ، فقل : الحمد لله على كل حال .
 
 
﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ﴾
حجة قتل الغلام :
 
          كان أبواه متعلقين به تعلقاً شديداً ، وكانا مؤمنين ، فإذا كبر هذا الغلام وصار كافراً ، وتعلق الأب والأم بابنهما الكافر فربما يهلكهما مع هلاكه  .     
          وهذا يؤكد علم الله بما سيكون ، علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، وعلم الله قديم ، ليس علماً كسبياً كعلم البشر ، فالإنسان بدون شك مخير ، والله يعلم بلا كيف ما في هذا من شك ، وعلم الله لا يؤثر في اختيار الإنسان .
 
   
﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً¯فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾
     
        أبدلهما الله عز وجل غلاماً مؤمناً طاهراً ، فإذا حدث التعلق به كان التعلق صحيحاً وسليماً .
 
 
﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾
حجة إقامة الجدار :
 
        قال : يا عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ، قال : يا رب أنفقته على كل محتاج ومسكين ، لثقتي بأنك خير حافظاً ، وأنت أرحم الراحمين ، قال : يا عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك ، وكان أبوهما صالحا ، الأبوة الصالحة تعود بالخير على البنوة الصالحة ، فهذا الأب الصالح استحق أن يطمئن على ولديه اليتيمين ، وأنهما سيأخذان الكنز الذي خبأه لهما تحت الجدار ، وحيث إن الجدار كان على وشك الوقوع جاء هذا العبد الصالح ، وبنى هذا الجدار بلا مقابل .
 
 
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾
            هنا الدقة :
 
 
﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾
 
دليل نبوة الخضر عليه السلام : وَمَا فَعَلْتُهُ عَن أَمْرِي
 
        ليس في علم الشريعة كلها أن تقتل غلاماً لعلمك بأنه سيكون كافراً ، من هنا استنبط العلماء أن العبد الصالح سيدنا الخضر هو نبي ، لأن خواطر الأولياء ليست معصومة ، لابد أن الله أوحى إليه بقتلِ هذا الغلام ، ولا يمكن أن يقبل قتلٌ بخاطر ، الولي يأتيه خاطر ، أما النبي فيأتيه الوحي ، فقتل نفس زكية لا يمكن أن يكون بخاطر من ولي ، بل لا بد أن يكون وحياً من نبي ، هذا يؤكد أن سيدنا الخضر نبي من عند الله .
 
 
﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ ﴾
 
الأُولى : تستطيع ، كان متألماً جداً ، أما الثانية هدأت نفسه بعد أن عرف التأويل .
 
 
﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾
 
ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك :
 
       
يجب أن تكون هذه القصص الثلاث في ذهن كل منا ، لأن الإنسان أحياناً يواجه عقبات ، ومشكلات ، وضغوطاً ، أحياناً يحرمه الله الولد ، أو يحرمه الله الذكور ، أو تأتيه زوجة مشاكسة، أو يكون دخله قليلاً ، لا تخلو حياة المؤمن من عقبات ، وأزمات .
                لذلك جاء في الحديث الشريف : أن الله عز وجل أوحى إلى الدنيا أن تكدري وتمرري ، وتضيقي ، وتشددي ، على أوليائي حتى يحبوا لقائي ، هذا فعل الله عز وجل ، أكرم الأبوين ، وأكرم أصحاب السفينة ، وأكرم الغلامين اليتيمين ، أعماله كلها إكرام .
                لذلك جاء في بعض الأحاديث الشريفة : الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ، وأما هذه القصص الثلاث فهي تفسير للقضاء والقدر .
        قال عليه الصلاة والسلام :
(( كل شيء بقضاء من الله وقدر )) .
[ ورد في الأثر ]
        والله سبحانه وتعالى لا يقضي إلا بالخير ، قد يكون الخير  ظاهراً ، وقد يكون غير ظاهر ، وهنا معنى قوله تعالى :
] وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [.
(سورة لقمان : 20)
        النعم الظاهرة ؛ هي النعم الظاهرة ، والنعم الباطنة ؛ هي المصائب ، فكم من مصيبة غيرت مجرى حياة الإنسان ، من الضياع إلى الهدى ، ومن الشقاء إلى النعيم ، ومن المعصية إلى الطاعة ، وكم من مصيبة حملت صاحبها على الطاعة .
] وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [.
(سورة الشورى : 30)
        ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدمت أيديكم ، ويوم القيامة يكشف الغطاء .
] فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [.
(سورة ق : 22)
        عندئذٍ تعرف الحقيقة على ما هي عليه ، لو كشف الغطاء لاخترتم الواقع .
] وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [  .
(سورة يونس : 10)
        ما منكم واحد إلا ويعاني بعض المشكلات ، هذه القصة إجابة شافية كل المشكلات التي يعانيها المؤمن ، إنها مشكلات في ظاهرها ، ومعالجات في باطنها ، إنها مشكلات في ظاهرها، وإكرام إلهي في حقيقتها .
                الشيء الذي يلفت النظر في هذه الآيات أن سيدنا الخضر على علم بالشريعة ، لذلك قال :
 
 
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾
        وسيدنا موسى على علم بالحقيقة ، ولكنه بالشريعة أعلم ، وسيدنا الخضر بالحقيقة أعلم ، وما هذا اللقاء إلا لقاء بحرين في العلم .
علم الشريعة ... وعلم الحقيقة ...
        علم الشريعة المنهج الدقيق الذي يجب أن تسير عليه أفعال الإنسان المكلف ، وعلم الحقيقة تفسير لفعل الله عز وجل الذي لا ينطوي إلا على الرحمة ، والعدل ، واللطف ، والخير .
       بقيت قصة أخيرة ، هي قصة ذي القرنين ، وفيها فوائد واستنباطات نأخذها إن شاء الله في الدرس القادم .
 
والحمد لله رب العالمين
 
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب