سـورة الحـج 022 - الدرس (6): تفسير الآيات (52– 63)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سـورة الحـج 022 - الدرس (6): تفسير الآيات (52– 63)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الحج

New Page 1

تفســير القـرآن الكريم ـ سـورة الحج (الآيات: 52- 63)

19/06/2011 14:48:00

 

تفسير سورة الحج (022)

الدرس (6)

تفسير الآيات (52- 63)

 

لفضيلة الدكتور

محمد راتب النابلسي



بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس السادس من سورة الحَج ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :

      

 

 

 

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)﴾

الصراع بين الحق والباطل

أيها الإخوة الأكارم .. هذه الآية تفسِّر سر الصراع بين الحق والباطل في كل عصرٍ ومَصر ، في أي مكانٍ وفي أي زمان ، هناك صراعٌ بين الحق والباطل ، أراده الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ عظيمة ، فربنا سبحانه وتعالى يقول :

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾

أيْ أَنَّ هؤلاء الرسل الذين حملوا رسالة ، وهؤلاء الأنبياء الذين أوحي إليهم ، هؤلاء صفوة الله من خلقه ، ومع ذلك :

 

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾

الله معهم ، أيَّدهم بالمعجزات ، أوحى إليهم ، عصمهم ، أمرهم بالتبليغ ومع ذلك :

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾

الأنبياء يتمنون هداية الناس    

ماذا يتمنى النبي أو الرسول ؟ يتمنى هداية الخَلق ، يتمنى سعادتهم ، يتمنى إنقاذهم من النار ، يتمنى أن يعرفوا الله عزَّ وجل ، يتمنى أن يعبدوه، يتمنى أن يسعدوا في الآخرة ، هذه أمنية النبي والرسول ، لا يتمنى النبي أو الرسول إلا الخَيْرَ المُطْلَق لكل الخلق ، هذه أمنيته ، يتمنى أن يرى الناس في سعادة ، أن يراهم على هدى ، أن يراهم منضبطين بالشرع ، يتمنى أن يراهم مُنْصفين لا يأكل بعضهم بعضاً ، ألم يقل سيدنا جعفر رضي الله عنه للنجاشي :

(( أيها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيفَ )) .

(أحمد عن أم سلمة )

هذه هي الجاهلية ؛ عدوان على الأموال ، والأعراض ، وكذبٌ وبهتان ، وانحرافٌ وضلال ، وانغماسٌ في الملذَّات الرخيصة إلى ما هنالك من حماقات الجاهلية .. ماذا يتمنى النبي أو الرسول ؟ يتمنى هداية الخلق ، يتمنى إنقاذهم من الظلمات إلى النور ، يتمنى نقلهم من الجهل إلى المعرفة ، يتمنى أن يعرفوا ربهم ، يتمنى أن يحققوا الهدف الذي من أجله خُلقوا ، إنه رسول الله ، إنه نبي الله بعثه الله رحمةً للعالمين ، قال :

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ﴾

هذه " مِن " لاستغراق الأفراد ، أي لا يمكن أن يكون هناك رسولٌ أو نبي إلا وله عدوٌ من شياطين الجن والإنس .

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾

( سورة الأنعام : من آية : " 112 " )

فلا ينبغي على الإنسان أن يضيق ذرعاً بأعداء الحق ، إنهم يعملون ويتحرَّكون وَفْقَ خطَّة الله رب العالمين ، لا ينبغي أن تضيق بهم ذرعاً ، لا ينبغي أن تقول : لماذا هؤلاء خلقهم الله عزَّ وجل ؟ لماذا سمح لهم أن ينالوا من الحق ؟ لماذا سمح لهم أن يكيدوا له ؟ لماذا سمح لهم أن يأتمروا عليه ؟ لماذا أخرجوا النبي ؟ لماذا تتَّبعوه في هجرته من مكة إلى المدينة ؟ لماذا ضَيَّقوا عليه ؟ لماذا حاربوه مراتٍ كثيرةٍ ؟ لماذا سمح الله لهم ؟ لا ، لا تقل هكذا ، هذه خطةٌ إلهية ، هذا تصميم إلهي .

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ﴾

لا تعترض على حكم الله ، إن وراء حُكم الله حكمةً بالغة ، كل شيءٍ وقع لابدَّ من أن يقع ، ولو لم يقع لكان هذا نقصاً في حكمة الله سبحانه وتعالى ، ولكن الإنسان في الدنيا قد تُغَطَّى عليه الأمور ، لكن إذا صحا ، وعرف الحقيقة يرى أن هذا الذي وقع هو عين الحكمة ، وليس في الإمكان أبدع مما كان ، ولو كُشِفَ الغطاء لاخترتم الواقع .

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾

أي ما من رسولٍ حصراً ، وما من نبيٍ حصراً إلا إذا تمنى ؛ تمنَّى الهداية ، تمنَّى الخير ، تمنى إنقاذ البشر ، تمنى أن يعبدوا الله ، تمنى أن يعرفوه ..

 

﴿ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾

معنى ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾

الأنبياء والمرسلون يُمَثِّلون جانب الحق ، والشياطين ، شياطين الإنس والجن يمثِّلون الباطل ، فلابد من صراعٍ بين الحق والباطل ، الأنبياء والمرسلون يمثلون جانب الخير ، وشياطين الإنس والجن يمثلون جانب الشر ، الأنبياء والمرسلون يمثلون جانب الحق ، وشياطين الإنس والجن يمثلون جانب الباطل ، فالصراعُ بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر صراعٌ دائم ..

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلا أذا تمنى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾

أيْ ألقى الشيطان في أمنيته هو ، هكذا التفسير ، في أمنيته هو ، أي أمنية الشيطان نفسه ، لأنه : ما كان للشيطان أن يصل إلى نبي ، ما كان للشيطان أن يصل إلى رسول ، يفكِّر هذا الشيطان .. سواءٌ أكان من الجِن أو من الإنس .. يفكر كيف يطفئ نور الله عزَّ وجل ، كيف يضع العثرات في طريق الحق ، كيف يصد الناس عن سبيل الله ، كيف يفسد عقائدهم ، كيف يفسد أخلاقهم، كيف يجعلهم ينصرفون إلى الدنيا ، كيف يُلقي في أنفسهم الشُبُهات ، كيف يحبب إليهم المعاصي والترُّهات ، كيف ؟ هكذا يلقي الشيطان في أمنيته ، النبي العظيم والرسول الكريم يتمنَّى هداية الخلق ؛ والشيطان يتمنى إضلالهم ، ما الذي يحصل ؟ الذي يحصل أن الله مع الحق ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ الذي يحصل أن الله يؤيِّد الحق ، وأن الله ينصر رسوله ، وأن الله مع المؤمنين .

﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ﴾

( سورة آل عمران : من آية : " 160 " )

هذا الذي يحصل .

 

﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾

خطط الشيطان وأمنياته ينسخها الله    

كل هذه الخِطَط ، وكل هذه العراقيل ، وكل هذه العَقَبَات ، وكل هذه الأساليب الخبيثة الماكرة ، وكل هذه الإمكانات ، وكل هذه الخطط ينسخها الله عزَّ وجل بكلمةٍ واحدة ، هكذا، كُنْ مع الله تَرَ الله معك ، كن مع الله ولا تكن مع الباطل ، لأن الباطل كان زهوقاً .

 

﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾

( سورة الأنفال : من آية : " 36 " )

ألم يكن كيد أبي جهلٍ وكيد أبي لهبٍ عظيماً ؟ لقد ماتا شر ميتة ، أين كَيْدُهُم ؟ لقد نسخه الله عزَّ وجل ، أين كيد أعداء الله ؟ لقد نسخه الله عزَّ وجل ، أين كيد الذين حاربوا الإسلام ؟ لقد نسخه الله عزَّ وجل ، أين كيد الذين أرادوا إطفاء هذا النور ؟ لقد نسخه الله عزَّ وجل .

 

﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ﴾

معنى ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ ﴾    

ما معنى يحكم الله آياته ؟ أيْ أَنَّ الآية التي أنزلها الله في كتابه الكريم ، مثلاً:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ ﴾( سورة النور : من آية : " 55 " )

إحكامَ هذه الآية أن يُسْتَخْلَفَ المؤمنون في الأرض .

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾

( سورة النحل : من آية : " 97 " )

إحكام هذه الآية أن يحيا المؤمن حياةً طيبة .

  

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا   ﴾  

إحكام هذه الآية أن الله يدافع عن الذينَ آمنوا حقيقةً .

 

﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ  ﴾     

إحكام هذه الآية أنْ ينصرَ الله من ينصره ، هكذا ، لذلك :

 

﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ﴾

فهنيئاً لمن كان مع الحق ، هنيئاً لمن كان مع الله عزَّ وجل لأنه لابدَّ من أن ينتصر ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟

 

﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾

معاني النسخ :      

ينسخ أي يلغيه ، النسخ لها معانٍ عديدة ، من معانيها الإلغاء ، إلغاء الحُكم ..

﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾

( سورة البقرة : من آية : " 106 " )

النسخ هنا الإلغاء ، هذه الخطط ، وهذه الأساليب ، وهذه الإمكانات ، وتلك العَقَبَات ، وهذا الصَدُّ عن سبيل الله يُلْغَى بكلمةٍ واحدة ، عشرة آلاف مقاتل ما اجتمعوا في تاريخ الجزيرة العربية ، ما اجتمعوا ، جاؤوا ليستأصلوا الإسلام من أصله ، جاؤوا ليقضوا على المسلمين واحداً وَاحداً ، وجاءت معهم الإبل ، والخِيام ، والقدور ، والجزور ، وكادوا للإسلام ، واتفقوا مع اليهود ، ونقض اليهود عهدهم مع النبي الكريم ، جاءتهم ريحٌ عاتية قلبت قدورهم ، واقتلعت خيامهم ، وجاء مؤمنٌ حديث العهد بالإيمان ، سيدنا نعيم بن مسعود ، وقد أوقع بين اليهود وبين قريش الخلاف ، فما هي إلا أيامٌ ثلاثة حتى رحل الأحزاب عن المدينة ، وكفى الله المؤمنين القتال ، هذا قرآن ..

 

 

﴿ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)﴾

صفة العلم والحكمة ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾    

عليم بالنفوس ، عليم بالنوايا ، عليم بالأهداف ، عليم بأن المؤمن يَهْدِفُ إلى إحقاق الحق ، إلى إظهار الحق ، إلى نشر الحق ، هذا هو المؤمن ، وعليم بأن الكافر يريد إطفاء نور الله ، يريد إفساد الناس ، يريد إضلالهم ، يريد أن يُشْقِيَهُم.

 

﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)﴾

حكيم ، لابدَّ من هذه المعركة بين الحق والباطل ، لماذا ؟ ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا مَنْ حيَّ عن بيِّنة ، لماذا هذه المعركة بين الحق والباطل ؟ ليظهر المؤمن على حقيقته ؛ محباً ، صادقاً ، مخلصاً ، صبوراً ، متوكلاً ، جَلْدَاً ، شجاعاً ، ولماذا هذه المعركة بين الحق والباطل ؟ لتظهر خِسَّةُ الكافر ودناءته ، وانحيازه إلى الدنيا ، ورغبته في أخذ كل شيء ، ويظهر عدوانه ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا مَنْ حَيَّ عن بينة ، هكذا، آية رائعة جداً ..

 

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾

فعلى مستوى الأسرة مثلاً ، يوجِّهُ الأب ابنه باتجاهٍ صحيح ، يأتي الخال إذا كان بعيداً عن الدين ، يأتي العَمُّ ، يأتي ابن العم فيسفِّه اتجاه الولد، ويرغِّبُهُ بالمعصية ، ويقول له : لا تستمع لهذا الكلام ، الأب يتمنى إصلاح ولده ، يأتي قريب بعيد عن الحق يتمنى إفساده ، كلما دعوت الناس إلى الحق دعاهم آخرون إلى الباطل ، تدعوهم إلى الاستقامة ، يدعوهم الآخرون إلى الانحراف ، تدعوهم إلى طاعة الله ، يزيِّن لهم آخرون معصية الله عزَّ وجل ، تدعوهم إلى العبادة ، فيدعونهم إلى الشهوة ، هكذا.

هذه المعركة بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وبين الهدى والضلال ، معركةٌ قديمةٌ قِدَمَ الإنسان ، ولن تنتهي حتى ينتهي الدوران ، فالإنسان لا ينبغي أن يضيق ذرعاً بخصوم الحق إنهم كُثُر ، وإنهم موجودون في كل مكانٍ وزمان ، والله سبحانه وتعالى جعل النبي عليه الصلاة والسلام أسوةً حسنةً لنا ، لقد جاهد الكفارَ والمنافقين ، لقد تحمَّل من كيدهم ، ومن خططهم ، ومن إفسادهم ، ومن تضييقهم الشيء الكثير ، ومع ذلك ، ففي الطائف كان دعاؤه الشهير :

(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا رب المستضعفين إلى من تكلني ، إلى صديق يتجهَّمني أو إلى عدوٍ ملَّكته أمري ، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي)) .

( السيرة النبوية )

الآن تتمة هذه الآية دقيقةٌ جداً :

    

 

﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ  بَعِيدٍ ﴾   

أفكار الشيطان فتنة للقلوب المريضة والقاسية

أيْ أَنَّ هذه الأفكار التي يلقيها الشياطين ، شياطين الإنس أو شياطين الجن ، هذه الأفكار التي يلقيها الشياطين إنما هي فتنةٌ للذين في قلوبهم مرضٌ ، فالقلب الممتلئ شهوةً يستجيب لهذه الأفكار ، فإذا قال لك إنسان : افعل ما بدا لك ، انتهز شبابك ، واستمتع بشبابك ، وافعل كل شيء ولا تلتفت إلى كل قيدٍ أخلاقي ، فهذه الأفكار ، هي دعوةٌ إلى الانغماس في الشهوات ، مَنْ يستجيب لها ؟ مَن في قلوبهم مرضٌ ، هؤلاء الذين في قلوبهم مرضٌ يستجيبون لهذه الشهوات ، لهذه الدعوات ، لهذا التوجيه ، فلذلك التوجيه المَرَضِي المنحرف لا يستجيب له إلا المَرضى ، لا يستجيب له إلا المُنْحَرِفون ، الباطل لا يستجيب له إلا المبطلون .

 

 

﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾

أيْ أَنَّ هذه النفوس المريضة لابدَّ أن تُعالج ، المرحلة الأولى من معالجتها أن تُكشف على حقيقتها ، يأتي هذا الذي يلقيه الشيطان فيكشف النفوس المريضة على حقيقتها ، وتستجيب لهذه الدعوة ، تفتن بها ، تقبلها ، ترحب بها ، تباركها على فسادها .

 

﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾

الظالم بعيد عن الحق

هم بعيدون عن الحق بُعد الأرض عن السماء ، بعيدون عن الحق وهم يُشَاقّونَ الحق ، يعني يناصبونه العِداء ، يكيدون له ، لا يَقِرُّ قرارهم إلا إذا تراجع الحق ، لا تستريح نفوسهم إلا إذا أُطْفِئ نور الله عزَّ وجل ، لا يسكنون إلا إذا ابتعد المؤمنون عن الدعوة إلى الله عزَّ وجل ، فلذلك :

 

﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾

أيْ أَنَّ أخطر حالة تصيب الإنسان أن يجد نفسه في خندقٍ معادٍ للحق ، أقذر دور يقوم به الإنسان أن يجد نفسه يُناصب أهل الحَق العِداء ، ويحاول أن يطفئ نور الله عزَّ وجل ، أن تكون مع صف الشياطين ضد المؤمنين ، أن تكون مع أهل الباطل ضد الحق ، أن تكون مع أهل الضلال ضد الهُدى ، أن تكون في خضمّ المعاصي ضد من هم في الطاعات ، هذه مصيبة كبيرة ، والله على مستوى الأسرة ، تجد المنحرف يشجِّع على المعصية ، على الفساد ، على التَهَتُّك ، على الانحلال ، يَعُد هذا رقياً ، حضارة ، يقول له : أين تعيش أنت ؟! لا تزال بهذه العقلية ؟! اخرج مع ابنتك كما تشتهي ، أعطها كل حريتها ، هكذا يريد ، على مستوى الأسرة ، على مستوى شريكين ، المنحرف دائماً يُرَسِّخ الباطل ، يرسخ الانحراف .

 

﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾

هذا الذي آتاهُ الله العلم إنسان متميِّز ، لقوله تعالى :

﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾

( سورة الزمر : من آية : " 9 " )

أيعقل أن يستوي الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون ؟!  ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا

( سورة طه )

ما قَبِلَ الله عزَّ وجل في الكتاب كُلِّهِ أن تكون قيمةٌ مُرَجِّحَةٌ بين الخلق إلا قيمة العلم ، لذلك :

﴿  يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ

( سورة المجادلة : من آية : " 11 " )

والآية الأساسية :

﴿  هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾

( سورة الزمر : من آية : " 9 " )

لا يستويان ، لا والله ..

 

 

﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾

أهل الحق مع الحق أينما كان

فأهل الحق لا يستجيبون إلا للحق ، لا ينصاعون إلا له ، أيُّ توجيه في بُطُل ، أيُّ دعوة إلى المعصية ، أيُّ توجيه نحو الانحراف يرفضونه ، ويمقتونه ، ويلعنونه ، ولا يستجيبون إلا للحق .

 

﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾

أيْ أَنَّ هذا الذي يلقيه الشيطان لا يتأثَّر به المؤمنون ، لا ينصاعون له ، لا يعبؤون به ، يفنِّدونه ، يرفضونه .

 

 

 

﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ

سعادة قلب المؤمن بالحق﴾

المؤمن سعيد بالحق ، يأتي الحق على قلبه بَرْدَاً وسلاماً ، الحق للمؤمن كالغذاء للجسد ، يتغذَّى بالحق .

 

﴿ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

قانون هداية الله للمؤمنين     

هذا قانون ، هؤلاء الذين آمنوا بالله ، لابدَّ من أن يهديهم إلى صراط مستقيم ، لابدَّ أن يهديهم ، ويصلح بالهم ، لابدَّ أن يأخذ بنواصيهم .

﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾

( سورة البقرة : من آية : " 257 " )

 

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

كلما عَثَرَت قدم المؤمن أقالَه الله عزَّ وجل ، كلما انحرف قليلاً ردَّه الله إلى الحق ، كلما بَعُدَ قليلاً دفعه الله إلى الحق ، كلما أخطأ عاتبه الله عزَّ وجل ، لذلك إذا أحب الله عبده عاتبه ، إذا أحب الله عبده عَجَّلَ له بالعقوبة ..

 

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

لكن هذا الهُدى على درجات ، المؤمن يستمع إلى الحق فيلتزم به ، هذه الدرجة أرقى أنواع مراتب الهُدى ، من دون عقاب ، الأقل درجة تأتيه مصيبة فيعود بها إلى الله عزَّ وجل ، كلما كَبُرَ حجم المصيبة كانت نفس هذا الإنسان أكثر بُعْدَاً عن الله عزَّ وجل ، فإذا ارتقى المؤمن يعود إلى الله بعتابٍ ، يعود إلى الله بآيةٍ قرآنية يقرؤها ، تدمع عيناه ، يعود إلى الله بنصيحة ، يعود إلى الله بخاطر قلبي ، لكن إذا كان أبعد من ذلك فلابدَّ من تأديبٍ مؤلم ، لذلك كلما كان العَوْدُ أسهل كانت النفس أرقى ، تعامل مع الله ، لا على أساس أن الله يهديك بالمُصيبة ، لا ، اطلب منه الهدى بالكلمة ، بالتوجيه ، بالقرآن ، بحديث النبي العدنان ، من دون أن تأتي المصيبة ..

 

 

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ﴾

حياة الكافر شكٌ وريبٌ في القرآن   

الكافر دائماً في شك ، ليس متأكداً ، هذه الحقائق الناصعة التي جاء بها القرآن ليست عنده واضحة ، وهو عَمَىً عليهم أيْ القرآن الكريم كما قال الله سبحانه وتعالى :

﴿  وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾

(سورة فصلت)

﴿  وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا

( سورة الإسراء )

﴿  بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ

( سورة الدخان )

هو في رَيْب ، في شك ، ليس متأكداً ، لو استمع إلى نصيحةٍ من عالم يشكك في نواياه ، يفسِّر هذا العمل تفسيراً شيطانياً ، وبالنسبة للقرآن فهو ليس متأكداً من أنه قطعي الثبوت ، والله سبحانه وتعالى يقول :

 

﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ﴾

أي في شكٍ ..

 

﴿ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾

الحقيقة تظهر عند الموت ، ولات ساعة مندم

متى الصاعقة ؟ حينما يأتي الموت ، هو طول حياته متشكك ، تجده يقول لك : يا أخي والله شيء يحيّر ، تجلس مع أهل الدين يتكلمون كلاماً تقنع فيه أحياناً ، تجلس مع أهل الباطل يتكلمون كلاماً تقنع فيه كذلك ، هو كالشاة العائرة بين الغنمين ، مذبذبين لا إلى هؤلاء وإلا إلى هؤلاء ، إنْ جلس مع أهل الدنيا يقنع بكلامهم ، ويتمنى أن يكون مثلهم ، وإن جلس مع أهل الدين يطْرَبْ لهم ، هو ليس له موقف واضح فلذلك :

 

﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾

 

يحسب حساباً لكل شيء إلا ساعة اللِّقاء ، إلا ساعة انتهاء الأجل ، هذه تأتيهم كالصاعقة .

﴿  فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾

( سورة المعارج )

﴿  فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾

( سورة الطور )

﴿  قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾

( سورة الأنعام )

  

﴿  حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً  ﴾

لقد حدثني أخ البارحة عن رجل في يومِ وقفةِ عيدٍ جالسٌ مع أهله ، وهو مرحٌ في طبيعته ، هكذا قال : سأذهب إلى هذا المستشفى لأجري بعض الفحوصات ، من باب التسلية ، من باب المُزاح ، ركب مركبته وتوجَّه إلى المستشفى ، ولم يصل إليه إلا ميتاً ، كنت في محل تجاري قال لي جارنا : هكذا كنتُ العيد الماضي ، لا يشكو شيئاً ، في أوج قوته ، في أوج نشاطه ، فحدثني أخ كريم عن طموحاته في العشرين سنة القادمة ، وفي المساء كان في عداد الموتى ، أين طموحات عشرين سنة ؟ لذلك :

﴿  فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾

( سورة المعارج )

 

﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾

معنى ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾

أيْ يومٌ لا يلد يوماً آخَر ، آخِرُ يوم ، هذا اليوم العقيم مخيف ، هناك يوم غير عقيم ، يوم يلد ، تنام فتستيقظ ، هذا اليوم ليس عقيماً ، لكن حينما يفحص الطبيب النبض يجده صفراً ، يضع مصباحاً متألقاً في عين المريض فالقُزحية لا تستجيب ، يضع مرآةً على فمه ؛ فالمرآة ليس يغشيها بخار ، يقول : عظَّم الله أجركم ، إنَّه منتهٍ ، يذهب بعضهم إلى كتابة النعي ، وبعضهم إلى تأمين القبر ، وبعضهم إلى تأمين لوازم النعي ، وما شاكل ذلك .

﴿  فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ*فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ*عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾

( سورة المدثر )

البطولة أن تُعِدَّ لهذا اليوم العُدَّة ، الذكاء والبطولة أن تُعِدَ لهذا اليوم ، ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما مَنْ يتِّقي اللهَ البطل .

 

﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾

 

لا يوجد مَرَدّ ..

 

 

﴿ ؤ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

النجاح الحقيقي هو الفوز بالجنة

فهذا هو النجاح ، هذا هو الفوز ، هذا هو التفوُّق ، هذا هو الفلاح..

﴿  لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ﴾

( سورة الصافات )

﴿  وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ﴾

( سورة المطففين )

﴿  فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾

( سورة يونس : من آية : " 58 " )

 

 

﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

﴿  دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ﴾

( سورة يونس : من آية : " 10 " )

 

﴿ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

﴿  وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ

( سورة الزمر )

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِه* إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِه* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ*فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ*قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ

( سورة المعارج )

﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ*كَانُوا قَلِيلا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ*وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾

( سورة الذاريات )

إلى آخر الآيات ..

 

 

﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾

الخسران الحقيقي هو دخول النار    

نعوذ بالله من هذا العذاب ، عذاب مهين ، هناك عذاب أليم ، وهناك عذاب عظيم ، وكذلك عذاب مهين ، أيْ عذابٌ أليمٌ عظيمٌ مهين .

 

﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ﴾

جزاء المهاجر في سبيل الله

تركوا بلادهم ، تركوا ممتلكاتهم ، تركوا ظهورّهُم ، تركوا أهليهم ..

 

﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾

ولكن هذه الهجرة في سبيل الله ، نيَّتهم من هذه الهجرة الله ورسوله، فالحديث الشريف :

(( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )) .

( البخاري عن عمر بن الخطاب )

 

﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

تَرَك كل شيء في سبيل الله ، جَعَلَ الله أغلى مِن كل شيء ، آثره على كل شيء .

 

﴿ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا﴾

معنى آخر للهجرة في سبيل الله : العبادة في الهرج

وبعضهم استنبط من هذه الآية أن الإنسان إذا لَقِيَ الله قتيلاً في سبيل الله أو لقيه ميتاً على فراشه كلاهما في الأجر سواء ، ما دام مهاجراً في سبيل الله ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )) .

( من صحيح مسلم : عن " معقل بن يسار " )

أيْ أنَّك إذا عبدت الله في زمن الشدة ، في زمن الفِتَن ، في زمن الشهوات ، في زمن الأمر بالمُنكر والنهي عن المعروف ، في زمن القابض على دينه كالقابض على الجَمْر ، إذا عبدته في هذا الزمان الصعب ، في زمن الشهوات والفتن ، في زمن الفجور والكفر ، إذا عبدته وكنت غريباً كما بدأ الإسلام غريباً ، فهذا له أجرٌ عظيم ..

 

 

﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً﴾

ماتوا ، وقتلوا ، ما هو هذا الرزق ؟ قال : هذا رزق أهل الجنة ، هذا هو الرزق الحَسَن الذي يسعى إليه ، لكن الدنيا فانية ، فأحياناً الإنسان يحضر جنازة ، أو يشاهد ميِّتاً يخرج من بيت فخم جداً ، فهناك بيوت تَحارُ فيها العقول ، هذا الميت كيف خرج منه إلى القبر ؟ أليس هذا البيت رزقاً ؟ نعم ، ولكنَّه رزق منقطع ، وليس متصلاً ، رزق ينتهي عند الموت ، كل شيءٍ في الدنيا ينتهي عند الموت ، لكن البطل هو الذي يعمل فيها عملاً يأخذه معه إلى القبر ، كل شيء يقف عند القبر لا قيمة له ، كل شيء يدخل معك في القبر هو الذي عليه المعوَّل .

 

 

﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً﴾

هذا الرزق الحسن ، أي الأبد ، نعيمٌ أبدي ، نعيمٌ مقيم .

﴿ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾

( سورة الحجر )

الحياة فيها نَغَص ، فمهما استقامت للإنسان فالزمن ليس في مصلحته ، والزمن سَيُقَرِّبُهُ من الموت ، ولو أنها جاءت كما يشتهي فإنَّ معها القَلَق ، ومعها الخوف ، ومعها الحزن ، إنَّ معها القلق خوفاً من أن تذهب ، وبِحَسْبِ هذا القلق منغصاً في الحياة .

 

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾

أحياناً يعطيك الإنسانُ شيئاً ، لكن هذا الإنسان ليس في إمكانه أن يمنع عنك الأمراض ، أو يمنع عنك المصائب ، لكن الله سبحانه وتعالى خير الرازقين .

 

﴿ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ﴾

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ

هذا الرضى المُطْلَق ، الإنسان يراقب نفسه فمثلاً إذا اشترى حاجة ، فإذا وجد فيها عيباً بسيطاً تجده قد انزعج ، الإنسان مفطور على الكمال ، ولا يرضيه إلا الكمال المُطلق ، فلذلك عزَّ وجل لما قال :

 

﴿ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ﴾

يعني يوم القيامة ، أيْ أَنَّ هذه الجنة هي التي تُرضي الإنسان ، تُرضيه حتى أقصى درجة ، تُرضيه رضاءً مُطلقاً .

 

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾

علمُ الله بما يصلح الناس وحلمُه عنهم

أيْ أَنَّ الله هو الذي يعلم ما يُرضيهم ، " ابن آدم كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك " ، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول : يا عبدي أنا أعرف كيف أرضيك ، أنا أعرف كيف أسعدك ، أعرف ما تحب ، أعرف ما تكره ، أعرف ما تخافه ، أعرف ما ترجوه ، كن لي كما أريد ، ولا تُعلِمْني بما يصلحك .

 

﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ﴾

أيْ يعلم ما يرضيكم أيها العباد ، يعلم ما يسعدكم ، يعلم ما يطمئنكم..

 

﴿ حَلِيمٌ ﴾

لولا أنه كان حليماً عليكم لما بلغتُم هذه المرتبة ، لولا أنه كان حليماً عليكم لقُضِيَ الأجل قبل هذا الهدى .

 

 

﴿ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾

من العدل اقتصاص المظلوم من الظالم من غير إسراف 

أيْ أَنَّ الله عزَّ وجل سمح للإنسان المظلوم أن يعاقِب بمثل ما عوقب ، سمح للإنسان المظلوم أن يأخذ حقَّه ، أما إذا عفا فهذا فضلٌ منه وإحسان ، الحق قسري ، لكن الإحسان اختياري ، الإحسان بالاختيار ، لكن الحق قسري ، ومع ذلك إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، يأمر بالعدل القسري ، والإحسان طوعي .

 

 

﴿ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾  

من الفضل والإحسان عفو المظلوم عن الظالم

أيْ أَنَّ ربنا عزَّ وجل ينصر هذا المظلوم ، لكن الأولى أن يعفو عن ظالِمِهِ ، لأن الله عفوٌ غفور.

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾

علاقة الآية بما قبلها

قد يقول قائل : ما علاقة هذه الآية بالتي قبلها ؟ الله سبحانه وتعالى قديرٌ على نصر عبده المؤمن المظلوم ، فكيف أن الليل يبدو مسيطراً ، وما هي إلا ساعات حتى يحل محله النهار ، الليل والنهار آيتان ، ليلٌ دامس ، ظلامٌ دامس ، جوٌ مخيف ، بعد أربع ساعاتٍ أو خمس فإذا الشمسُ مشرقة ، كل شيء واضح ، الناس في أُنْسٍ ، وفي طمأنينة ، فكما أن الله سبحانه وتعالى يأتي بالنهار بعد الليل ، كذلك هذا الذي ظُلِم فالله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينصره ، وأن يجعل ظُلامَتَهُ عدلاً وإنصافاً وسعادةً .

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾

معنى : اللَّيْلَ فِي النَّهار

المعنى الأول :    

      يعني يُدخل ، والآية لها معنى جغرافي ، فأَذكر منذ أيام كان عندي موعد الساعة السابعة ، الموعد كان في المساء ، الساعة السابعة صيفاً يعني قبل المغرب بساعة ، وشتاءً بعد العشاء بساعة ، بينهما حوالي أربع ساعات ، كيف أن هذه الساعة كانت ليلاً فصارت نهاراً ، أو كانت نهاراً فصارت ليلاً ، كيف أدخل الله الليل بالنهار ؟ هذا معنى ، فهذا تفاوتُ طولِ الليل والنهار.

المعنى الثاني :

      هو أن هذه الأرض الآن يلفها ليل ، الظلام مُخَيّم ، يأتي الفجر فترى في الأفق خيطاً أبيض ، هذا الخيط يتسع ، ويتسع ، ثم ينتشر ضوءٌ من جهة الشرق ، فيعُمُّ الأرضَ كلها ، أو يعم هذه المنطقة كلها ، فإذا الظلام زاهق ، أين الظلام ؟ إنهما آيتان دالتان على عظمة الله عزَّ وجل ، إذاً الدهرُ آيتان تشيران إلى أن الله سبحانه وتعالى قادر ، وبقدرته أن ينصر عبده المظلوم ، وكأن الظلام رمزٌ للظلم ، والنور رمزٌ للعدل ، قال العلماء : هذه آيات متتابعة بالقرآن لا يوجد لها مثيل ، فيها أسماء الله الحسنى بشكلٍ كثيفٍ جداً ، فاستمعوا :

 

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾

 

﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾

 

﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾

 

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾

       فستة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى جاءت كلها متتابعة في آيات قليلة متلاحقة ، وسوف نشرع في شرحها ..

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾

أولاً :

 

﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾

سمعُ الله وبصرُه    

     أيْ يسمع دعاءك ، ويرى حالك ليلاً أو نهاراً ، في السفر وفي الحضر، وحدك وفي جماعة ، في كل أحوالك ، سميعٌ لقولك ، عليمٌ بحالك ، هكذا الله سبحانه وتعالى.

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾

الله هو الحق المطلق

      كلامه حق ، كلام غيره باطل ، شرعه حق ، ونظام غيره باطل ، الترتيب الإلهي حق ، أيُّ إجراءٍ آخر باطل ، فالحق واحد لا يتعدد ، فإمّا أن تكون على الحق ، وإما أن تكون حتماً على الباطل ، لا يوجد حالة ثالثة ، لا توجد حالة وسطى عند الله عزَّ وجل ، إما أن تكون على الحق أو على الباطل .

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾

      شرعه حق ، كلامه حق ، توجيهه حق ، أمره حق ، نهيه حق ، قرآنه حق ، دستوره حق ، وعده حق ، وعيده حق ، الجنة حق ، النار حق ، معنى " حق " أي سوف يَحِقْ ، ومعنى سوف يَحق أي لابدَّ أن يقع ، لو فرضنا أربعة أو خمسة توعَّدوا إنساناً بشيء ، واحد يملك قوة على تنفيذ ما توعَّد به فهو الحق ، والباقون على باطل ، فالحق هو الذي يقع ، يقع وَفْقَ العدل .

 

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾

جميع النظم والقوانين المخالفة للشرع هي الباطل

      جميعُ النُظُمِ الوضعية ، جميع النظريات المناهضة للقرآن الكريم ، جميع الإجراءات ، جميع الأساليب ، جميع الحضارات التي لا تقوم على أساس الدين إنها باطل ..

 

﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾

علو الله المطلق

     أيْ يعلو ، ولا يُعلى عليه ، كبيرٌ لا يصغر في نظر أحد ، هو كبير، ليس في أعماله عملٌ يدعو أن يكون عند الناس صغيراً ، بل هو كبير .

 

﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾

وهو السميع البصير ، وهو العفو الغفور ، وهو خير الرازقين .

 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾

من آيات الله الكونية : نزول الماء وخروج النبات

      وهذه من آيات الله ، أرضٌ جرداء ، أشجارٌ كأنها الحَطَب ، تنزل الأمطار ، فترتدي هذه الأشجار حُلَّةً قشيبةً بيضاء وكأنها عروسٌ ترتدي ثياب زفافها ، والأرض بساطٌ أخضر ، سيدنا عمرو بن العاص وصف مصر للخليفة الراشد عمر بن الخطاب قال : " يا أمير المؤمنين مصر طولها شهرٌ وعرضها عشرٌ .. طولها مسيرة شهر ، وعرضها مسيرة عشر أيام .. يَخُطُّ وسْطَهَا نهرٌ ميمون الغَدَوات ، مبارك الروحات .. نهر النيل .. فإذا هي عنبرةٌ سوداء .. أرض مصر أرض حمراء ، قريبةٌ من البُنِّيَّة .. فإذا هي عنبرة .. من لون العنبر ، فالتربة السوداء تربة خصبة جداً .. فإذا هي عنبرةٌ سوداء إذا هي دُرَّةٌ بيضاء .. فيضان النيل .. ثم هي زُبُرْجُدَةٌ خضراء .. كلها مزروعة .. فتبارك الله الفعَّال لما يشاء " هذا وصف أدبي لمصر ، حالة شتاء ، وحالةَ الربيع عند الفيضان ، وحالة الصيف البساط الأخضر ، لذلك :

 

﴿ أَلَمْ تَرَ﴾

دعوة إلى الرؤية والتأمل     

       فهل هناك مِنّا لم يرَ الربيع ، لو سافر من دمشق إلى حلب في الربيع ، الطريق كله أخضر ، اذهب إلى كل مكان في الربيع ، الأرض خضراء ، بساط أخضر ، الأشجار خضراء ، مزدانة .

 

﴿ أَلَمْ تَرَ﴾

أيْ ألا تكفيك هذه الآية ؟ ..

 

﴿ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾

اليخضور في أوراق النبات

      هنا بحثٌ علمي ، وأحد الإخوة الأكارم ذكره لي قال : إنَّ في مياه الأمطار شوارد هي التي تُساهم في تلوين اليخضور في أوراق النباتات ، فلو سُقِيَ النباتُ بالماء خالياً من هذه الشوارد لما اخضر النبات .

 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾

مظاهر لطف الله وخبرته في النبات :

     لطيف ، فالنبات ينبت من دون ضجيج ، الشجرة معمل ، تعطيك هذه تفاح ، وهذه مشمش ، وهذه كُمثرى ، وهذه دُرَّاق ، فأنواع منوعة من الفواكه ، تعمل الشجرة بصمت من دون ضجيج ، ليس لها محرِّك ، وليس لها عادم غاز ، وليس لها مشكلة ، شجرة ، يقول لك : حملتْ عشرين صندوقاً من التفاح ، بدون صوت ، أغصان يابسة ، أصبحتْ نضرة خضراء، ازدهرت ، أصبحت براعم ، ذات أوراق ، انعقدت ثماراً ، هذه من آيات الله العظيمة الدالَّة على عظمته ، فربنا لطيف ، فإذا صار في المعمل ماس كهربائي يقف ، لكنَّ الشجرة لا تقف ، إن سقيتها تشرب ، شيء من السماد تنمو به ، لكن ليس فيها حالات حادة ، إذا انتابها ماس مثلاً وقفت فوقعت الفواكه دفعة واحدة ، ليس فيها شيء من هذا ، معمل لطيف ، فالأشجار كلها معامل ، والبقرة معمل ، والغنمة معمل ، معامل متنقِّلة ، فلذلك :

 

 

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾

     كيف تنقلب هذه الشجرة من طور اليُبس إلى طور الخضرة والنضارة ، وكذلك فالتفاح له طعم خاص ، نكهة خاصة ، لون خاص ، قوام خاص ، بنية خاصة ، من التراب !! يُسقى بماءٍ واحد ، ونفضِّل بعضها على بعضٍ في الأُكُل ، التفاح نفسه منه ثلاثمئة نوع ، الدرَّاق منه أنواع منوَّعة ، الإجاص كذلك أنواع منوعة ، العنب ثلاثمئة نوع كما بيَّنت  بعض التجارب ، أنواع منوعة كلها تسقى بماءٍ واحد ، فالله عزَّ وجل لطيف خبير .

     يعني هو خبير ، عمل لك هذه الثمرة بحجم معتدل ، لو كان البطيخ معلَّقاً بالشجرة لكسرَ رأس الإنسان ، البطيخ على الأرض ، والتفاح على الشجر حجمه صغير ، لو للبطيخ قشرٌ كالبندورة لما أمكن نقلُه ، لكنّ قشر البطيخ يتحمّل نقلهُ من مكان لآخر ، تجد شاحنة فيها خمسة أطنان من البطيخ ، لولا هذا القشر السميك الذي يحفظها لانتهت وتلفتْ ، باعتبار بعض الخضار حجمها صغير فقشرها رقيق ، فهناك حكمة بالغة في الحجم، وفي الطعم ، وفي القوام ، وفي زمن القطاف ، وفي التخزين ، وفي النقل .

 

﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾

ملكاً وتصرُّفاً ومصيراً .

    

﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ  ﴾

غنى الله عن عباده وحاجة العبادة لله

     أيْ أنه غنيٌ عن عباده ، ومع أنه غنيٌ عنهم لا يعاملهم إلا معاملةً يحمدونه عليها ، أنت قد تكون لطيفاً مع إنسان بحاجة إليه ، أما لو استغنيت عنه لكلَّمتَه كلاماً قاسياً ، لكن ربنا عزَّ وجل بكماله المطلق هو غنيٌ عن عباده ، ومع أنه غني فلا يعامل عباده إلا معاملةً يحمَدُونَه عليها، إذاً نلاحظ ..

 

﴿ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾

لها علاقة بالآية ، و :

 

﴿ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾

لها علاقة بالآية ، و :

 

﴿ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾

لها علاقة بالآية ، و :

 

﴿ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾

لها علاقة بالآية ، و :

 

﴿ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾

لها علاقة بالآية ، و :

 

 

 

 

﴿ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾  

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

 

 

والحمد لله رب العالمين

 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب