سورة الجمعة 062 - الدرس (2): تفسير الأيات (05 – 08)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الجمعة 062 - الدرس (2): تفسير الأيات (05 – 08)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الجمعة

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الجمعة ـ الآيات: (05 - 08)

21/12/2013 17:36:00

سورة الجمعة (062)

 

الدرس (2)

 

الآيات: (5- 8)

 

 

لفضيلة الأستاذ

 

محمد راتب النابلسي

 

 


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

         الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الثاني من سورة الجمعة ، ومع الآية الخامسة ، وهي قوله تعالى :

 

( سورة الجمعة )

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

 

علاقة الآية بما قبلها :

 

قد يسأل سائل : ما علاقة هذه الآية بقوله تعالى :

 

﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(2)وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3)ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(4)مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

( سورة الجمعة )

 

1 ـ الصحابة استجابوا لدعوة الرسول :

 

أيها الإخوة الكرام ، حينما بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة نبياً ورسولاً ، بشيراً ونذيراً ، أصحابه الكرام استجابوا له ، وفهموا حقيقة دعوته ، وطَبَّقوها ، وتألَّقوا ، ودانت لهم الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها ، وخرجوا من جزيرتهم ونشروا الإسلام في الخافقين ، هذه الدعوة المتألِّقة ، هذه الدعوة السماوية ، كيف يمكن أن تفرَّغ من مضمونها ؟ كيف يمكن أن تتراجع ؟ كيف يمكن تزهو ؟

 

2 ـ موقف اليهود من دعوة الرسول كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا :

 

اليهود جاءتهم التوراة ، حُمِّلوا التوراة ، أي أُنْزِلَتْ على نبيِّهم ، نبيهم علمهم إيَّاها ، عرفوا أحكامها ، ثم لم يحملوها ، حُمِّلوها تعليماً وإرسالاً ، ثم لم يحملوها تدبُّراً وتطبيقاً ، فأكبر خطر ينتظر المسلمين هو أن يقرءوا النصوص ، ولا يعملوا بها ، أن يفهموا حقيقة الوحي ولا يطبِّقوه ، أن يكونوا أوعيةً لا وعاةً لهذا الدين العظيم ، وهناك مفارقة عجيبة جداً هي أن الصحابة الكرام كانوا قلة لا يزيدون على عشرة آلاف رجل ، نُقِلَتْ دعوتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها ، بينما المسلمون اليوم يزيدون على مليون ومئتي مليون ، ومع ذلك تروْنَهُم ليسوا كما ينبغي أن يكونوا .

في الحقيقة الخطر الكبير الذي ينتظر المسلمين هو أن يكون هذا الدين صورةً في حياتهم ، ليس مطبقاً في حياتهم ، الله جلَّ جلاله يقول :

 

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

( سورة الأنفال : الآية 33 )

أجمع العلماء على أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن يرتحل إلى ربِّه عذاب أمته بمخالفة سُنَّته ، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل علامة حبه اتباع سنة نبيه ، قال تعالى :

 

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 31 )

 

 

 

 

أكبر خطر على المسلمين مشابهتهم لليهود أنهم حملوا التوراة ، ثم لم يحملوها :

 

إذاً عندنا خطر كبير ؛ أن نقرأ القرآن ولا نعمل به ، أن نقرأ السنة ونتزيَّن بها ولا نطبِّقُها ، أن تكون حياتنا في وادٍ والنصوص التي نقرأها كل يومٍ قراءةً تعبُّدية في وادٍ آخر ، أن لا يكون هذا الدين مطبَّقاً في حياتنا ، أن نحيا حياةً على نمطٍ غربي ، أن نُتاجِر على النمط الغربي ، أن نقيم علاقتنا الاجتماعية على نمطٍ غربي ، دون أن يكون للدين دخلٌ في حياتنا ، لكن الدين في المسجد ، نصلي في المسجد ، ونقرأ القرآن في المسجد ، ونقيم شَعائِرَهُ دون أن نسمح للدين أن يدخل إلى حياتنا اليومية ، كما أن اليهود حُمِّلوا التوراة ، أنزلت عليهم التوراة ، نبيهم الكريم سيدنا موسى علَّمهم إيَّاها ، إلى أنهم لم يحملوها ، أي لم يطبِّقوها ، ماذا قالوا ؟

 

﴿ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 75 )

       أي هم أحرار في أن يسيئوا إلى الأقوام الآخرين ، بل إن هذا يُعَدُّ جزءًا من دينهم   .

 

﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾

       كما ذكرت في الدرس الماضي ، الأميون أي في الأُمَمِيين ، الأمم الأخرى ، هم يتوهمون أنهم شعب الله المختار ، وليس عليهم أن يسيئوا أو أن يغتصبوا ، أو أن ينكِّلوا في بقية الأمم ، هذا جزءٌ من عقيدتهم الفاسدة ، لذلك حملوا التوراة ثم لم يحملوها ، أي لم يطبقوها ، فلذلك محك الإنسان الحقيقي لا ما يقوله لك ، بل ما يفعله ، وقد تجد أناساً ألسنتهم أحلى من العسل  ، وفعلهم أَمَرُّ من الأسل .. أي الصبر .. ولئلا يتوهَّم الإنسان أن بكلامه الذكي ينتزع إعجاب الآخرين ، وينجو عند الله ، لا ينفعنا إلا أن نكون على منهج الله ، لا ملجأ من الله إلا إليه ، فالإنسان يتكلم ، وبكلامه إذا ذكياً يقلب الحق إلى باطل ، والباطل إلى حق ، يعتدي ويتهم الذي اعتدى عليه أنه هو السبب ، يتجاوز الحدود ، يتناقض ويقنع الناس بلسانه الذَرِبْ أنه على حق ، هذا عقابه يوم القيامة قوله تعالى :

 

﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ﴾

( سورة يس : الآية 65 )

       لأنهم كاذبون  .

 

 

﴿ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ﴾

( سورة يس : الآية 65 )

أخطر شيء يصيب الدين أن يبقى طقوساً ، حركاتٍ لا معنى لها ، عباداتٍ جَوْفاء ، أن يوصف عند الآخرين بأنه تراث ، ثقافة ، فلكلور ، عادات ، تقاليد ، نماذج ، رواسب الأباء والأجداد ، الدين منهج ، الدين سبب سعادة المجتمع ، سبب انضباطه ، فأكبر خطر يتهدد المسلمين هو الخطر الذي أهْلَكَ اليهود أنهم حملوا التوراة ، ثم لم يحملوها ، القرآن بين أيدينا نقرأه صباح مساء ، أحكامه واضحةٌ وضوح الشمس ، ومع ذلك لا تجدُ معظم المسلمين في مستوى هذا الكتاب ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه )) .

[ ورد في الأثر ]

      وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه )) .

[ الطبراني في المعجم الكبير عن صهيب ]

 

العبرة في تطبيق الدين :

 

العبرة لا أن تقرأ القرآن ، العبرة أن تقرأه وأن تطبقه ، العبرة لا أن تصلي في المسجد ، العبرة أن يكون بيتك مسجداً ، أن يكون بيتك منتظماً ، ملتزماً ، العبرة أن تربي أولادك وفق الشريعة الإسلامية ، العبرة أن تأخذ بيد زوجتك إلى الله ورسوله ، العبرة أن تتعامل مع الناس وفق منهج الله ، العبرة أن يستوي عندك التِبْر والتراب في جنب الله عزَّ وجل ، والمال مهما عظم فهو تحت قدميك إذا كان سيحجبك عن الله عزَّ وجل ، هذا هو المؤمن .

النبي عليه الصلاة والسلام ربَّى أصحاباً من هذا النموذج ، لذلك كان الواحد منهم كألف ، سيدنا عمر حينما أرسل إلى سيدنا سعدٍ دعماً .. استنجد به ، أريد الإمداد ، أريد جيشاً يَدْعَمُني .. أرسل له واحداً القعقاع بن عمرو ، أيعقل أن يرسل الخليفة إلى قيادة جيشٍ في العراق دعماً رجلاً واحداً ؟!!

       فيا أيها الإخوة الكرام ، العلاقة بين هذه الآية وبين الآية التي سبقتها هو أن الله سبحانه وتعالى قال :

 

 

 

﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

         وهذه الدعوة التي كانت محور الدرس الماضي ، تلاوة الآيات الكونية ، والاتصال بالله ، والتزكية ، التطهير من الأدران والتحلي بالكمال ، ومعرفة الكتاب والسنة ، هذه هي أركان الدعوة إلى الله ، هذه الدعوة التي آتت أُكُلَها ، وأيْنَعَت ثمارها في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، حتى استحق أصحابه أن يستخلفهم الله في الأرض ، فاستخلفهم ، وكانت كلمتهم هي العُليا ، استخلفهم الله في الأرض ، ومَكَّنَ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وأبدلهم من بعد خوفهم أمناً ، لأنهم عبدوه ، فإذا جاء بعد قوم النبي قومٌ ما عبدوا الله ، بل عبدوا شهواتهم لم يستخلفهم في الأرض .

اصعد إلى جبل قاسيون ، وانظر إلى سطوح المنازل تفهم كل شيء ، لا تنظر إلى أشياء أخرى ، أنظر إلى سطوح المنازل ماذا عليها ؟ تعرف ماذا في هذا البيت ، انظر إلى النوافذ متألِّقة حتى الساعة الخامسة صباحاً ، ماذا يفعل هؤلاء في الليل ؟ ثم يَعْتَبَ الناس على ربِّهم لماذا لا ينصرهم ؟!

المشكلة حينما تنفصل الحياة عن الدين فيصبح الدين ثقافة ، تراثا ، كتبا في المكتبة ، يصبح الدين أفكارا لا تقدِّم ولا تؤَخِّر ، يصبح الدين عادات ، فأحياناً إكراماً لشهر رمضان المبارك تُقام الحفلة الفلانية الراقصة ، والملهى الفلاني يقدم أشياء إكراماً لرمضان المبارك ، لم يعد هناك دين ، انفصلت الحياة عن الدين ، لذلك :

      

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

( سورة الأنفال : الآية 33 )

 

لن ينصرنا الله إلا إذا كنا كما يريد :

 

       الإنسان أحياناً يستمع إلى ما يجري في العالم الإسلامي فيتألم أشد الألم ، ولكن لو فتح القرآن ليفهم الحقيقة يرى قوله تعالى :

 

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ

( سورة الرعد : آية 11 )

لنغير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا ، لنفتح القرآن ونقرأ :

 

﴿ إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ

( سورة محمد : الآية 7 )

فإن لم ننصر دينه في بيوتنا ، إن لم ننصر دينه في أعمالنا ، إن لم ننصر دينه في بناتنا ، إن لم ننصر دينه في أولادنا ، إن لم ننصر دينه في أفراحنا ، إن لم ننصر دينه في أتراحنا فليس لنا عليه شيء .

دققوا في هذا الحديث الصحيح ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ ، فَقَالَ : يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُعَاذُ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُعَاذُ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ، فَقَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ ؟ ـ أراد الله أن يطمئننا ، أراد الله أن ينشئ لنا حقاً عليه ـ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ )) .

[ متفق عليه ]

﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ

( سورة الروم )

الله عزَّ وجل أنشأ هذا الحق على ذاته العَلِيَّة  .

 

 

﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا

( سورة النساء )

        فإذا كان لهم على المؤمنين ألف سبيلٍ وسبيل ، ماذا يعني ذلك ؟ إذا كان للكافرين على المؤمنين ألف سبيلٍ وسبيل ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ... )) .

[ متفق عليه ]

ما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أنهم تركوا دينهم ، ولم ينصروا دينهم ، ولم يطبِّقوا شرع نبيهم ، لذلك الله جلَّ جلاله يعالجهم ، ولعل في المعالجة خيراً لهم ، لقوله تعالى :

 

 

﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ

( سورة القصص )

فلذلك المسلمون وقد تألَّقت دعوة الإسلام في حياتهم ، وقد قطفوا ثمارها في عهد النبي وعهد أصحابه الراشدين ، ومن بعدهم التابعون ، هذه الدعوة التي تألَّقت أشد التألُّق في صدر الإسلام ، ما الخطر الذي ينتظرها ؟ الخطر الذي ينتظرها أن نُحَمَّل القرآن إنزالاً وتعليماً ، ثم لا نحمله تدبراً وتطبيقاً ، فنكون كهؤلاء الذين وصفهم الله عزَّ وجل :

 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾

 

3 ـ معنى : أَسْفَارًا :

 

الأسفار جمع سِفْر ، والسفر هو الكتاب ، و السَفْرُ هو الكشف ، سفرت العمامة عن الرأس أي كُشِفَت عن الرأس ، سَفَرَ الحجاب عن الوجه أي كشف عن الوجه ، فالسَفَر الكَشْف ، أما السِفْر فهو الكتاب ، به تكشف الحقائق .

لو أن دابةً حُمِّلَت كتاباً في الفَلَك ، وكتاباً في الرياضيات ، وكتاباً في الفيزياء ، وكتاباً في علم النفس ، وكتاباً في علم الاجتماع ، وكتاباً في التاريخ ، وكتاباً في الجغرافيا ، وكتاباً في الفلسفة ، وسارت هذه الدابة وعلى ظهرها هذه الكتب مسافةً طويلة ، ثم استوقفناها ، وسألناها عن قانون التجاذب الحركي فإن الحمار يَنْهِقَ .

 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾

      شيء زَرِيّ ، شيءٌ لا يحتمل ، إنسان يقرأ القرآن ولا يعمل به ، يقرأ القرآن وبناته كاسياتٌ عاريات ، مائلاتٌ مميلات ، ملعوناتٌ أينما ذهبن ؟ يقرأ الجلُ القرآن ودخله حرام ، يقرأ القرآن وحياته اختلاط ، يقرأ القرآن هو في وادٍ ، والدين في وادٍ آخر  .

 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾

 

4 ـ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا

 

حُمِّلوها أن القرآن أنزل على هذه الأمة ، والنبي فصَّله في سنته ، سنته كلها تبيانٌ لما في هذا القرآن ، معنا كتاب الله ، ومعنا كتب السنة ، تسعة كتبٍ صحيحة ، السنة تزيد على ستمئة ألف حديث ، الكتب الصحيحة التسعة تزيد على ستين ألف حديث ، في هذه الأحاديث شرَحَ النبي القرآن ، وهي متوافرةٌ بين أيدينا أينما ذهبت ، الكتاب مع تفاسير مقروءة ، وتفاسير مسموعة ، وتفاسير مرئية ، فالمكتبة الإسلامية عامرة إلى أقصى درجة ، بل إنك لتجد أنه إذا أقيم معرض للكتاب الناس فيه زرافاتٍ ووحدانا ، هناك إقبال على طلب العلم ، فأين التطبيق ؟ أين الاستخلاف الذي وعدنا الله به ؟ أين التمكين الذي وعدنا الله به ؟ أين التطمين الذي وعدنا الله به ؟ أين النصر الذي وعدنا الله به ؟ أين معنى قوله تعالى :

 

﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة الروم )

أين قوله تعالى :

      

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

( سورة الأنفال : الآية 33 )

لأن المسلمين أصابهم ما أصاب اليهود :

 

 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾

حُمِّلوا القرآن ثم لم يحملوه  .

 

﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

 

بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

 

1 ـ المسلمون يكذِّبون القرآن بلسان حالِهم لا بلسان مقالهم :

 

       أيها الإخوة الكرام ، لا أعتقد أن في العالم الإسلامي رجلاً واحداً يقول لك : القرآن ليس كلام الله ، هذا قَلَّما تجد ، حالات نادرة جداً ، حالات تعد على أصابع اليدين ، أن يقول لك قائل : هذا القرآن ليس كلام الله ، لكنك تجد أن إنساناً يقرأ القرآن ، ولا يعمل به ، كيف تفسر إنسانا يقرأ القرآن ولا يعمل به ؟

 

2 ـ التكذيب العملي أخطر من التكذيب القولي :

 

إذا ذهبت إلى طبيب ، وعالجك الطبيب ، ووصف لك وصفة ، وصافحت الطبيب ، وأثنيت على علم الطبيب ، وتشكرت الطبيب ، ولم تشتر هذه الوصفة ، وأنت متألم ، ومعك مال ، فعدم شرائك لهذه الوصفة تكذيبٌ لعلم الطبيب ، تكذيبٌ ضمني ، وهذا أعظم أنواع التكذيب ، إنك إن كذبت بلسانك ناقشناك ، وحاورناك ، وأقنعناك ، لكنك تقول : كلام الله ، هذا القرآن تقول أنت :  لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلا سبيل إلى محاورتك ، أما إذا دخلت إلى بيتك لا تجد أثراً للقرآن في بيتك ، ولا في خروج بناتك ، ولا في تربية أولادك ، ولا في كسب مالك ، ولا في إنفاق مالك ، إذاً : هذا الذي حصل ..

      

﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾

فهذا الذي يطلق بصره في الحرام ، يملأ عينيه من الحرام ، ويقرأ قوله تعالى :

 

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾

( سورة النور : الآية 30 )

ألا يكذب تكذيباً ضمنياً بهذه الآية ؟ إذًا :

 

﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾

هذا الذي يقرأ القرآن ؛ يقرأ قوله تعالى :

 

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾

( سورة البقرة : الآية 276)

ويتعامل بالربا ألا يُكَذِّبُ هذه الآية ؟

هذا الذي يقرأ قوله تعالى :

 

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾

( سورة البقرة : الآية 188)

ويأكل أموال الناس بالباطل اغتصاباً ، واحتيالاً ، وغشاً ، وتلاعباً ، وتدليساً ، وإخفاء عيبٍ ، وتزوير جهةٍ صانعةٍ ، هذا الذي يأكل أموال الناس بالباطل ، ويقرأ قوله تعالى :

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾

( سورة النساء : الآية 29)

ألا يكذِّب بهذه الآية ؟

إن أخطر أنواع التكذيب أن يكذِّبُ عملك لا أن يكذب لسانك ، لأنه إن كَذَّبَ عملك فلا أحد يكشفك ، فأنت فيما تعلن مسلم ، مؤمن ، صادق ، طاهر ، لكن حينما تكون مع المؤمنين  تندس بينهم ، لا يعرف ما إذا كنت معهم أو ضدهم ، لذلك قال تعالى :

 

﴿ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ ﴾

( سورة الأحزاب : الآية 20 )

لو قال :  لو كانوا معكم فهذا موضوع ثان ..

 

﴿ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ ﴾

اندمجوا معكم ، يصلوّن كما تصلون ، يسبِّحون كما تسبحون ، يأتون المساجد كما تأتون ، لكنهم لا يطبِّقون ، فهذا الذي يحضر مجلس العلم ، ولا يلتزم بأوامر الدين ، كيف يفكر ؟ كيف ينام ؟ كيف يستلقي على جنبه مساءً ؟ سمع الحق ، أو أسمعه الله الحق ، ما حجته عند الله عزَّ وجل ؟ لمَ لا تطبق ؟

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾

( سورة الصف )

هل يعقل أن يكون أصل العمل حراماً ، وأصل كسب المال حراماً ، وأصل هذه العلاقة محرَّمة ، ثم تتبرك بالعلماء ، تدعوهم إلى بيتك لينطقوا بكلمات الحق وأنت تزهو بهم ، أليس هذا نفاقاً ؟

أيها الإخوة الكرام ، ليس من أشياء قليلة تَخَلَّى الله عنا ، هناك أسباب كبيرة جداً ، ومع ذلك نحن نرجو رحمة الله ، ونخشى عذابه ، فالله عزَّ وجل قال :

 

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾

( سورة النحل )

الله جلَّ جلاله إذا قََّنن فلا يُقَننِّ عجزاً ، لأنه :

 

 

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾

( سورة الحجر : الآية 21 )

إلا أن الله إذا قنن ، إذا قنن الدخول ، إذا قنن الأمطار ، إذا قنن المكاسب ، إنما يقنن تأديباً .

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

( سورة السجدة )

أصحاب الجنة الذين انطلقوا إليها يتبخترون من أجل أن يصرموها مصبحين ، ولا يستثنون حق الفقراء ..

﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ(20)فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ(21)أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ(22)فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ(23)أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ(24)وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ(25)فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(26)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾

( سورة القلم )

 

قصة أصحاب الجنة : دروس وعبر :

       

إنسان لا يؤدِّي زكاة ماله ، عنده بستان يُضَمِّنُه كل عام بمليون ليرة ، هَبَّتْ رياحٌ عاتية قبل أيام لم تبق له شيئاً ، مَحَقَت الإنتاج كله ، كله في الأرض ، وبحجمٍ صغير ، في منطقة مرتفعة ، ولأنها مرتفعة يتأخر نمو التفاح فيها ، يضمنه كل عام بمليون ليرة ، ليس عنده شيء يُضَمِّنُهُ .

 

﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ

والسرعة ثمانون كيلو متر ، لو كانت مئة وعشرين فهذه نكبة ثانية ، لو كانت مئتين ، هناك أعاصير بسرعة ثمانمئة كيلو متر تقتلع المدينة من جذرها ، بثمانين كيلو متر لا تبقى شيء ، ربنا عزَّ وجل بعد أن حدثنا عن قصة أصحاب الجنة ، قال :

 

﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28)قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾

( سورة القلم )

قال تعالى :

 

 

﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾

( سورة القلم )

أي يا عبادي كل أنواع العذاب الذي أسوقه لكم من هذا النوع ، عذاب تأديب ، عذاب معالجة .

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

( سورة السجدة )

المشكلة أن هذه الآية يُقاس عليها أن الذي حُمِّلوا القرآن ثم لم يحملوه .

 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

 

عدم تطبيق أوامر الله تكذيبٌ عملي بها :

 

       معنى ذلك أن كل أمرٍ بين يديك لا تُطَبِّقُهُ هو تكذيبٌ به بنوعٍ أو بآخر ، حينما لا تطبق أمر الله عزَّ وجل أنت تكذبه ، تكذيباً معلناً بلسانك ، وهذا قلما يكون ، أو تكذيباً سلوكياً ضِمْنِيَّاً ، وهذا أخطر أنواع التكذيب ..

 

﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

 

3 ـ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

 

هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وانحرفوا عن جادة الصواب ، ولم يعملوا بكتاب ربهم ولا بسنة نبيهم هم ظالمون .

 

قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ

 

       ثم يقول الله عزَّ وجل :

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ

( سورة الجمعة : آية 6 )

 

1 ـ الدعوى باللسان سهلة يسيرةٌ :

 

الدعوى سهلة .

و كلٌ يدعي وصلاً بليلى

***

الدعوى سهلة ، زعم اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه :

 

 

﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾

( سورة المائدة : آية 18)

هذه دعواهم ..

 

﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾

( سورة البقرة )

       إخواننا الكرام ، كل إنسان بإمكانه أن يدَّعي ما يشاء ، أنت لك أن تقول : هذه الشام كلها ملكي ، بكل أحيائها ، وأبنيتها ، وبيوتها ، وأسواقها ، لكن أين الدليل ؟ نريد الدليل ، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، إذا أعفيتموني من الدليل أقول لكم : كل الشام ملكي ، بكل بيوتها ، وكل أبنيتها ، وكل أسواقها التجارية ، كلها ملكي ، بلا دليل ، لذلك القضية من دون دليل سهلة جداً ، كلٌ يدعي أنه حبيب الله ، وأنه مؤمن كبير ، وأنه عالم جليل ، هُناك أَدِلَّة .

لماذا ربنا عزَّ وجل ما قبل من أي إنسان أن يدَّعي حبه إلا بالدليل ؟ قال تعالى :

 

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾

( سورة آل عمران : الآية31 )

       فهؤلاء الذين هادوا ، قال تعالى لهم :

 

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ ﴾

         إن زعمتم أنكم أحباب الله ، أحبابه ، الحبيب يشتاق إلى حبيبه ، هذه بديهية ، فالإنسان إذا أَحَبَّ فتاةً ، ونوى أن يتزوَّجها يتمنَّى أن يلتقي بها ، وهناك شيء بسيط جداً من أبسط مبادئ الحب ؛ أن تتمنى أن تكون مع محبوبك ، فإن زعمتم أنكم أحباب الله :

 

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾

 

2 ـ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ

 

الحقيقة موضوع تمنِّي الموت هذا كاشف دقيق جداً ، فالذي يتمنى الموت هو الذي على صلةٍ طيبةٍ بربه ، يتمنى لقاءه ، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ ... )) .

[ متفق عليه ]

لو قرأتم تاريخ الصحابة الكرام لوجدتم أن في حياتهم قاسماً واحداً مشتركاً ؛ ألا وهو : أنه ما من صحابيٍ جليل إلا وكان في أسعد لحظات حياته عند دنوِّ أجله .. واكربتاه يا أبت ، قال : لا كرب على أبيك بعد اليوم ، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه .. وهذه علامة صحة العمل .

إذا كان الإنسان لا يحتمل ذكر الموت ، لا يحتمل منظر القبر ، لا يحتمل مرضا خطيرا ، لا يحتمل نعيًا ، لا يحتمل أن يسمع قرآناً يُتْلى في تعزية ، ينخلع قلبه ، معنى هذا أن هذه مشكلة كبيرة جداً ، وفي عمله خلل كبير ، هذا مصير كل حي ، لذلك علامة صحَّة العمل عدم الخوف من الموت ، وعلامة سوء العمل الفزع من الموت ، هذه آية قرآنية ، ودليل قرآني :

 

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾

هناك بعض القواعد : مثلاً : ما الذي يفرحك ؟ أن تأخذ المال أم أن تعطيه ؟ إذا كان يفرحك أن تأخذ المال فأنت من أهل الدنيا ، أما إذا كان يفرحك أن تعطيه في سبيل الله فأنت من أهل الآخرة ، إذا كان الموت يَخْلَع قلب الإنسان ، أو لوازم الموت ، أو مقدِّمات الموت ، ولا يطيق سماعها ، ولا النظر إليها فهذه علامة غير مرضية ، معنى ذلك أن العمل سيئ ، أما إذا كان لقاء الله محبباً إليك فهذه علامةٌ طيبةٌ جداً ، هذا مقياس قرآني ، فكل واحد يعرف نفسه ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ )) ، يَعْنِي الْمَوْتَ .

[ الترمذي ، النسائي ، ابن ماجه ، أحمد ]

الإنسان يتصور أنه إذا مات أين سيدفن ؟ أين سَيُغَسَّل ؟ ما مصير أهله بعده ؟ هذه خواطر مفيدة جداً ، لأنها تضع الإنسان في حجمه الحقيقي ، يا ترى دخله سليم ؟ كسبه سليم ؟ علاقاته سليمة ؟ إنفاقه سليم ؟ بيته إسلامي ؟ عمله إسلامي ؟ البضاعة التي يتعامل بها محرمة أم حلال ، هذا كله يبدو بالموت ، وفي التفكر في الموت :

 

وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ

 

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾

( سورة الجمعة )

 

﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ﴾

( سورة البقرة : الآية 96 )

أعرف رجلا .. أو قرأت عنه أنه ما ركب طائرةً في حياته خشية الموت ، ضبط طعامه وشرابه بشكل مذهل ، وعاش عمراً مديداً ، ثم مات ، وهذا مصير كل حي ، فلذلك موضوع الموت موضوع مركزي ، وكلنا ميتون :

 

﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾

( سورة الزمر )

 

لابد من الاستعداد للموت :

 

لا يستطيع أحدٌ أن ينكر الموت ، إلا أن الناس يتفاوتون في الاستعداد له ، الاستعداد له بالتوبة ، الاستعداد له بالعمل الصالح ، الاستعداد له بالدعوة إلى الله ، الاستعداد له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الاستعداد له بإقامة الإسلام في البيت وفي العمل ، بهذا نستعد للموت .

الموت أيها الإخوة له هدفان إيجابيان ، لو أنك تركب مركبة على طريقٍ مستقيم ، وعلى اليمين والشمال واديان سحيقان ، ما الخطر الذي يتهدد هذه المركبة ؟ أن تنحرف إلى أحد الواديين ، أو أن يحترق محركها فتقف ، فإما الوقوف ، وإما الانهيار ، مهمة الموت في حياة المؤمن أنه يحول بينك وبين أن تعصي الله .. التفكر في الموت يحول بينك وبين أن تقف ، يدفعك إلى الله ، ويحميك من الانزلاق في المعاصي ، لذلك النبي الكريم قال :

(( أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ )) ، يَعْنِي الْمَوْتَ .

[ الترمذي ، النسائي ، ابن ماجه ، أحمد عن أبي هريرة ]

إن الإنسان المؤمن يتفكر في الموت ، ولا يخشى الموت ، لأنه مصير كل إنسان ، فهذا الذي يخاف الموت ، ويبتعد عن كل مسبباته ، وعن كل لوازمه ، ولا يطيق سماعه ، ولا سماع أوصافه هذا كالنعامة تغرس رأسها في الرمل والعدو لاحقٌ بها ، فلذلك البطولة لا أن أبتعد عن ذكر الموت أن أفكِّر في الموت كثيراً ، وأن أستقيم على أمر الله كثيراً ، لذلك :

 

﴿ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾

( سورة الجمعة )

لأنهم ظالمون لا يتمنونه ، ظلموا أنفسهم ، وظلموا غيرهم .

أما هذه الآية :

 

﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾

( سورة الجمعة : آية 8 )

 

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ

 

الموت مصير كل حي :

 

تصوَّر إنسانا يخاف من عدوٍ شرس ، فهو يركض والعدو وراءه ، وكل يقينه أنه وراءه ، ثم فوجئ به أمامه !!

حدثني شخص عن رجل أصيب بأزمة قلبية ، فرأى الموت يأتيه من قلبه ، فاعتنى عناية تفوق حد الخيال ، الطعام المقنن ، والرياضة ، والعناية ، والراحة التامَّة ، والبعد عن المشكلات ، حسب تعليمات الطبيب ، وهو لا ينتظر الموت إلا من قلبه ، جاء صهره من بلدٍ نفطي ، ومعه سيارة فخمة ، أخذه إلى نزهة إلى منطقة الزبداني ، وفي طريق العودة وقع حادثٌ أليم أودى بحياته ، هو ينتظر الموت من أين ؟ من قلبه ، فإذا هو بحادث لم يكن يتوقَّعه :

﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾

تظنه وراء ظهرك ، وأنت هاربٌ منه قد تفاجأ أنه أمامك .

من لم يمت بالسيف مات بغيره      تنوَّعت الأسباب والموت واحد 

***

الموت مصير كل حي ، الإنسان مهما أخذ الحيطة ، كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت .

الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر      والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر

***

كل ابن أنثى وإن طـالت سلامته       يوماً على آلة حدباء محمول

فإذا حملت يوما إلى القبور جنازة      فاعلم بأنك بعدها مــحمول

***

خواطر الموت مفيدة جداً ، أن هذا البيت بعد أن أموت سيبيعونه أم لا ؟ هذا مصير كل حي ، هذا المحل بعد وفاة الإنسان ماذا سيكون مصيره ؟ الإنسان يفكر في الموت حتى يخفف تعلقه بالدنيا .

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 185)

       الزحزحة أي شيء ثقيل جداً :

 

﴿ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 185)

 

﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون ﴾َ

( سورة الجمعة )

 

ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

 

1 ـ لابد من التفكر فيما بعد الموت :

 

أي أن هذا الذي لا يفكر في الموت كما قلت قبل قليل : كالنعامة تماماً ، فلابد من العودة إلى الله ، ولابد من أن نحاسب على أعمالنا صغيرها وكبيرها ..

 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

( سورة الحجر )

       أين قوله تعالى :

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾

( سورة الزلزلة )

هناك قصة رمزية : أن رجلا من كبار الأغنياء وافته المَّنية ، أولادهم من شدة خوفهم على مصيره في القبر دفعوا لأحد الفقراء المعدمين مبلغاً كبيراً جداً لينام معه أول ليلةٍ في قبره ، لأنه قد ورد في بعض الأحاديث أن أصعب ليلة هي أول ليلة ، يقول الله عزَّ وجل لعبده :

" عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت " ، فهذا الفقير الُمْعَدم يرتدي كيسًا من الخيش ، ورابطه بحبل حول وسطه ، فنزل في القبر .. وهذه قصة رمزية .. جاء الملكان ، فرأيا اثنين .. شيء جديد .. تحرك ، فقالوا لبعضهما : لنبدأ بالحي ، أجلسوه وسألوه : من أين هذا الحبل ؟ فأجاب : والله أخذتها من بستان ، فسألوه : كيف دخلت إلى البستان ؟ ضربوه ، كيف دخلت إلى البستان ؟ هل استأذنت صاحبه ؟ هذا صباحاً خرج وهو يصيح ويستريح ، ويقول : الله يعين أباكم ..

موضوع الموت أمر كبير جداً ، فراقب ، احضر تعزية في بيت فخم ، وانظر إلى أين مصير صاحبه اليوم ؟ بيت بمساحة أربعمئة متر ، ثمنه خمسون مليونًا ، أين مصير صاحبه اليوم مساءً ؟ في المقبرة ، ماذا يوجد داخل القبر ؟ ظلام دامس ، وحساب دقيق عن كل كلمة .

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :

(( حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا ، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا ، قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ ، وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا ، كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً ، فَقَالَ : لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ )) .

[ الترمذي ]

الآن أين هي كلمة قصيرة ، يتكلمون في عرضها ولا يبالون ، سهرة كلها غيبة ونميمة ، أو مسلسلات منحطة ، أو لعب بالنرد إلى الساعة الواحدة مساءً ، وكسب مال حرام ونزهات مختلطة ، المعاصي كلها موجودة ، والموت مثل النعامة تماماً ، لذلك : " من عد غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت " .

 

 

﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

2 ـ إذا ذكر الموت في قليل إلا كثره ، ولا في كثير إلا قلله :

 

        لذلك النبي عَلَّمنا أن نفكر بالموت كل يوم ، ويا إخواننا الكرام الموت له ميزة ، ما ذكر في كثيرٍ إلا قلله ، واحد مات من مدة وترك ألفين مليون ، في خلال ثانية صار خبرا على الجدران ، انتهى ، يا ترى في الكفن هل يوجد جيب ؟ هل يوضع دفتر شيكات في الكفن ؟ القبر خمس نجوم ؟ لا يوجد خمس نجوم ، في الحياة خمس نجوم ، فلذلك موضوع الموت أخطر ما فيه أن الإنسان بغفلة عنه أحياناً ، أما إذا أكثر الإنسان من ذكره استقام على أمر الله .

الشيء الذي يلفت النظر أن الإنسان تنمو حياته درجة درجة ، يقول لك : إلى أن أخذت هذا البيت خرجت عيوني بالطول والعرض ، وبيت قبو ، وشمالي ، بعد ذلك قام بتوسعته ، تنمو حياته درجة درجة ، يأتي ملك الموت يخلِّصه كل ما يملك في ثانية واحدة ،  انتهى كل شيء ، حتى مقتنياته الشخصية تؤخذ ، فلا يوجد أحد إلا ولديه درج خاص له يضع فيه أشياء ومقتنيات ، هذا بعد الموت كله يفتح ويؤخذ ويستهلك ، وينتهي الأمر .

يا أيها الإخوة ... التفكر بالموت من العبادة ، فالموت ما ذكر في كثيرٍ إلا قلله ، بالعكس ، وما ذكر في كثيرٍ ، إذا كانت حياة الإنسان خشنة ، دخله محدود ، لكنه مستقيم على أمر الله ، هذا مَلِك ..

 

﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ﴾

( سورة القصص )

 

خاتمة :

 

       إذا كانت حياة الإنسان خشنة ، وكان مستقيمًا ، وذكر الموت كَثَّرَ الله أمله ، وجعله في أعلى عليين ، إذا كان في بحبوحة كبيرة جداً ، لكن غير صحيحة ، وذكر الموت هذا الشيء قل في عينه ، فالفراعنة الموت كان مرعبًا بالنسبة لهم ، يعتقدون وهماً أن حياة بعد الموت ، فإذا ذهبت إلى أهراماتهم وجدت العجب العُجاب ، مركبات ، الآن هناك خبز في الأهرامات من ستة آلاف عام ، وقطع لحم قديد من ستة آلاف عام ، لأنهم يحبون الحياة ، ويكرهون الموت اعتقدوا واهمين أن هناك حياةً بعد الموت ، لذلك اعتنوا بها كثيراً ، كل حضاراتهم في القبور موجودة ، مركبات ، الذهب الذي يزينون به أنفسهم بعد الموت لا يصدق ، الفضة ، التُحَف ، المقتنيات ، المركبات ، الطعام ، الشراب ، الخبز ، اللحم ، الألبسة ، الأحذية ، كله موجود في القبر ، لأن الإنسان يتمنى أن يعيش إلى أبد الآبدين ، أما إذا عرف الله ، وعرف منهجه كان الموت نقطة تحوّل من حياة إلى حياة .

تجد الطفل يعيش في رحم أمه تسعة أشهر ، وحجم الرحم أعتقد سبعمئة وخمسون سنتيمترا ،  وبعد أن يولد يضعونه في غرفة كبيرة ، ويأخذونه إلى حلب ، واللاذقية ، وإلى مصايف ، وإلى أمريكا واليابان ، و يصعد إلى القمر أيضاً ، فالإنسان عندما يولد ينتقل من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ، أما إذا مات المؤمن فينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ، فلذلك عندما يعمل الإنسان للدار الآخرة  يكون أعقل العقلاء ، " أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً " ، كل إنسان يحب ، إلا أن المؤمن عرف كيف يختار من يحب ، اختار الله ، قال له : ماذا أبقيت يا أبا بكر ؟ أعطى كل ماله لرسول الله ، ماذا أبقيت لك يا أبا بكر؟ قال : الله ورسوله .

 

﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾

( سورة الجمعة )

 

والحمد لله ربِّ العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب