سورة الحشر (059)
الدرس (2)
تفسير الآيات: (6- 7)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني من سورة الحشر ، ومع الآية السادسة ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
( سورة الحشر )
بين الغنيمة والفيءِ :
أيها الإخوة ، هناك الغنيمة وهناك الفيء ، فالغنيمة ما تؤخذ من العدو عقب حربٍ سجالٍ بين المسلمين وأعدائهم ، هذه الغنيمة شَرَّع الله طريقة توزيعها ، فأربعة أخماسها للمقاتلين ، وخُمُسُها مُقَسَّمٌ خمسة أخماس ، لله وللرسول الخمس ، ولذي القربى ، قرابة النبي عليه الصلاة والسلام الخمُس ، وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ثلاثة أخماس ، هذه هي الغنائم ، لكن الفيء هو الذي يؤخذ من العدو من دون قتال ، هذا الفيء كلّه لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، يقول الله عزَّ وجل :
﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ﴾
أي أن هذا الفيء ما كان بسبب قتالٍ مرير بينكم وبين أعدائكم ، فبنوا النضير كانوا على مقربةٍ من المدينة ، وأصحاب النبي عليهم رضوان الله ساروا إليهم مشياً على الأقدام ، وقد ألقى الله في قلبهم الرعب ، فتركوا ديارهم وأموالهم ، وكان هذا المال فيئاً للنبي عليه الصلاة والسلام بيَّن الله جلَّ جلاله كيف يُوَّزَع هذا الفيء .
﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ﴾
معنى : فَمَا أَوْجَفْتُمٍ
معنى : فَمَا أَوْجَفْتُمٍ ، أي ما أسرعتم ، وما ركبتم المَطايا إليهم ، ولا تَجَشَّمتم المشاقَّ إلى قتالهم ، ولا لقيتم من قتالهم عنتاً ولا مشقَّةً ، إنما ذهبتم إليهم مشياً على الأقدام ، ولا استخدمتم البعير في الوصول إليهم .
﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾
فائدة جليلة مستفادة من الآية :
هنا وقفةٌ متأنِّية ، الله سبحانه وتعالى هو الفَعَّال ، لكن قد يفعل فعله عن طريق إنسان ، وقد يفعل فعله مباشرةً ، والله سبحانه وتعالى قادرٌ دائماً وأبداً أن يَمْحَقَ الكافرين بنفسه ، ولكن أراد أن يمتحننا .
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾
( سورة البقرة : الآية 253 )
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ ﴾
( سورة محمد : الآية 4 )
فالله عزَّ وجل حينما يكلِّفنا أن ننشر هذا الدين ، حينما يكلفنا أن ننشر الحق من أجل أن نرقى عنده سبحانه وتعالى ، هو غنيٌّ عنَّا ، والحديث القدسي الصحيح :
(( يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ )) .
[ مسلم عن أبي ذر ]
لو أردنا أن نطبِّق هذه القاعدة على حياتنا اليومية ، لما دعي الكفَّار على الإنفاق على الفقراء ماذا قالوا ؟
﴿ أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ﴾
( سورة يس : الآية 47 )
الله عزَّ وجل قادر أن يطعم الفقير ، وأن ينصر المظلوم ، ولكن الإنسان جعله الله خليفته في الأرض ليرقى عنده بالعمل الصالح ، فأفعال الله عزَّ وجل يمكن أن يجريها عن طريق الخلق ، ويمكن أن يجريها مباشرةً ، فلذلك هنا :
﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ ﴾
مع بني النضير اقتص منهم مباشرةً ، فألقى في قلبهم الخوف ، والمسلمون في معركة بدر قاتلوا المشركين ، وكان القتال مريراً ، وانتهى بانتصار المسلمين ، إنَّ الله هو الذي نصرهم ، وهو الذي قوَّاهم على عدوِّهم ، ولكن هذه المعركة انتهت بنصرٍ مؤزَّرٍ من خلال حربٍ حقيقيةٍ والتحامٍ مرير ، لكن في معركة الخندق المسلمون لم يقاتلوا ، بل هبَّت رياحٌ عاتية خربت خيامهم ، وأطفأت نيرانهم ، وقلبت قدورهم ، وألقى الله بينهم وبين حلفائهم العداوة والبغضاء ، قال تعالى :
﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾
(سورة الأحزاب : الآية 25 )
الله عزَّ وجل يمكن أن ينتصر من أعدائه عن طريق المؤمنين ، ويمكن أن ينتصر منهم مباشرةً .
﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾
( سورة محمد : الآية 4 )
أي حينما يكلِّفُنا ربنا ؛ إطعام الفقراء ، ومعالجة المرضى ، والعطف على المساكين ، حينما يكلفنا ربنا أن ننشر هذا الدين إنما ليرقى بنا ، إنما ليكسبنا عملاً صالحاً نسعد به إلى أبد الآبدين ، فهذه الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمنون هي في الحقيقة من فعل الله عزَّ وجل، فإذا أراد ربك إظهار فضلك عليك خلق الفضل ونسبه إليك .
كلنا ضعفاء أيها الإخوة ، كلنا فقراء ، كلنا لا نعلم ، لكن من طلب من الله العلم علَّمه الله ، ومن طلب المال من الله لينفقه على الفقراء والمساكين أغناه الله ، ومن طلب القوة ليقوِّي بها الحق قوَّاه الله ، فنحن ضعاف وفقراء ولا نعلم ، فإذا طلبنا من الله العلم علَّمنا ، وإذا طلبنا القوة قوَّانا ، وإذا طلبنا الغنى أغنانا من أجل أن نعمل صالحاً نرقى به عند ربنا ..
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ﴾
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ﴾
( سورة المدثر : الآية 31 )
الرعب والخوف من جنود الله :
أحياناً فيروسٌ لا يرى بالعين ، من أضعف خلق الله قاطبةً .. هذا فيروس الإيدز أضعف فيروسٍ عرفه العلماء حتى الآن .. إن خرج في الهواء بعد ثوانٍ ويموت ، هذا الفيروس الضعيف دولٌ عُظمى ، وهيئات علميةٌ في أعلى درجات العلم ، وأموالٌ فلكية ، ألوف المليارات أنفقت من أجل أن نبحث عن مصلٍ مضادٍّ لهذا الفيروس ، لم يصل العلم الآن إلى هذا المَصْل ، والعالم كلُّه مكتوف اليدين ينظر إلى خمسةٍ وثلاثين مليون مصاب بالإيدز ، وفي كل عشر ثوانٍ يموت إنسانٌ بالإيدز في بعض البلاد الغربية فقط ، هذا من جنود الله .
الطاعون من جنود الله ، وإلقاء الخوف في قلوب الكفَّار من جنود الله ، والخوف أحد الجنود ، وربنا عزَّ وجل لا يعلم جنوده إلا هو ، أن يلقي الله في قلب أعدائه الخوف هذا من جنود الله عزَّ وجل ، أن يبتليهم بالأوجاع التي لم تكن في أسلافهم من جند الله عزَّ وجل .
الآن جنون البقر لم يعرف العلماء حتى الآن مسببات هذا المرض ، لكنهم يرجِّحون أن مسببات هذا المرض أقلّ من الفيروس ، كائن حي ، لكن لم يهتدوا إلى طبيعته ، هذا الكائن الحي المسبب العامل الممرِض سبَّب كارثة لبلدٍ تعيش على بيع لحوم البقر ، من أقصاها إلى أقصاها كلُّها مراعٍ وتُربَّى فيها البقر ، وهم الآن يواجهون أزمةً اقتصاديةً لا حدود لها ، لأن الله سبحانه وتعالى سلَّط على أبقارهم مسبباً لهذا المرض أقلَّ من الفيروس ، هذا من جنود الله عزَّ وجل ، لأنهم خالفوا منهج الله ، وأطعموا هذا البقر طحين لحم الجِيَف ، وطحين الدم المجفَّف ، والله سبحانه وتعالى حَرَّم الميتة والدم ولحم الخنزير .
الآيات بين أيدينا ، الآيات الدالة على صحَّة هذا المنهج ، وعلى أحقِّيته ، وعلى أنَّ هذا الدين دين الله ، وعلى أنَّ هذا الدين شرع الله ، وعلى أنّ هذا الدين هو الحق ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الأدلَّة والآيات أكثر من أن تُحصى .
أيها الإخوة .
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ﴾
إن الإنسان محاط بمليارات جنود لله عزَّ وجل ، فإن لم يستقم على أمر الله يأتِه الجنود من حيث لا يشعر ، تارةً من صحَّته ، وتارةً جرثوم ، وتارةً فيروس ، وتارةً مسبِّب للمرض ، وتارةً في ماله ، أحياناً تُسَلَّط ذبابةٍ على محصولٍ قيمته مئات الألوف ، هذا المحصول يفنى ، يصاب بمرض ، وحتى الآن الذبابة البيضاء لا أحد يعرف كيف الخلاص منها ، ذبابة تُسَلَّط على الخضراوات في الصيف ، هذا مرض ، هناك أمراض تصيب النباتات ، وهناك أمراض تصيب الحيوانات ، هناك أمراض تصيب الإنسان ، وهناك خوف يُلْقَى في قلب الإنسان ، هذا كلُّه من جنود الله ..
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ﴾
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
إنه لا ينجينا من الله إلا أن نطيعه ، ولا ملجأ منه إلا إليه ، ولا مَفَرَّ منه إلا إليه ، لذلك الله عزَّ وجل قال :
﴿ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
( سورة الرعد : آية " 28 " )
هو الذي خلق قلوبنا ، هذا القلب البشري لا يطمئن إلا بذكر الله ، ولا يسعد إلا بذكر الله .
﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) ﴾
( سورة طه )
لا يضلُّ عقله ، ولا تشقى نفسه .
في الآية لفتة لطيفة ، وهي أن الله سبحانه وتعالى قدَّم الذكر على الاطمئنان فقال :
﴿ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
ولو أنه قال : تطمئن القلوب بذكر الله لكان المعنى أنها تطمئن بذكره وبغير ذكره ، إذا قلت : نعبد إياك يا رب ، أي نعبدك ، وقد نعبد غيرك ، أما إذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾
(سورة الفاتحة : الآية 5 )
أي أنَّه قَدَّم المفعول على الفعل ، هذا تقديم الحصر والقصر ، أي إن هذه الآية الواضحة الجليَّة تبيّن أنه لا يمكن لمخلوقٍ أن يسعد إلا بذكر الله ، بذكر عظمته ، وذكر أمره ، وذكر رحمته ، وذكر فضله ، والاستقامة على أمره ..
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هو قدير أن ينصرك على عدوِّك ، وقدير أن يكفَّ يد عدوِّك عنك ، لكن ابحث عن الذي يرفعك عند الله ، ابحث عن الذي يرقيك عند الله عزَّ وجل ، أحياناً الحدث يقع على يد إنسان ، وأحياناً يقع من قِبَل الله مباشرةَ ، وهذا ما يسمِّيه الناس القضاء والقدر .
مثلاً : إذَا وقع طفل من الشرفة فمات فهذا من قضاء الله وقدره ، وأحياناً إنسان عن حيطةٍ وعن حذرٍ يدهس صبيّاً ، مات الصغير بالقضاء والقدر المباشر ، ومرَّةً بالمقضي عن طريق إنسان ، فكلُّه فعل الله عزَّ وجل ، ولكن أحياناً يحقق الله أفعاله مباشرةً ، وقد يحققها من خلال بعض الكائنات ..
﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
أي أن الإنسان في قبضة الله .
هناك مثل ضربته قبل يومين : إن هذه اللعب بالسيارات الكهربائية .. لو أن عشر سيّاَرات اتجهت نحو سيارةٍ كي تجعلها في زاوية ، والذي يملك قطع التيار عن هذه الساحة لو فعل هذه الحركة لعطَّل كل الحركات ، الأمر كلَّه بيد الله عزَّ وجل ، أي إنها قضية تقوية ، الله يقوي إنسانًا ، ويضعِّف إنسانًا ، فإذا كنت مع الله قوَّاك الله ، وإذا ابتعدت عنه ضعفت ، فإذا كان الإنسان مع الله لا يخشى أحداً ، وإن لم يكن مع الله خاف من كل شيء ..
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾
الحقيقة أنّ هذه قصَّة جرت للنبي مع بني النضير ، كيف أجلاهم ؟ وكيف خانوا العهد ؟ ثم كيف تآمروا على قتله ؟ ثم كيف أجلاهم ، وأخذ منهم أموالهم على أنه فيءٌ أنعم الله به على المؤمنين ؟
قاعدتان مهمتان من قصة بني النضير :
ولكن من خلال هذه القصَّة وردت قاعدتان ، إن هاتين القاعدتين هما أصلان من أصول حياة المسلمين ..
القاعدة التشريعية الأولى : كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾
نقف عند هذه القاعدة قليلاً ، هذا المال أيها الإخوة قِوام الحياة ، جعله الله قِوام الحياة ، هذا المال وضعه الطبيعي ، وضعه السليم ، وضعه الصحّي هو في خدمة الإنسان إذا كان متداولاً بين جميع الناس ، أي إذا كان بين أيدي مجتمعٍ ما كتلة نقدية ، هذه الكتلة النقدية ينبغي أن تكون متداولةً بين كل الناس ، كل الناس يعيشون ، ويأكلون ، ويشربون، ويسكنون ، ويتطبَّبون ، ويتنزَّهون ، ويلبسون .. إلخ ، أما إذا تجمَّع المال في أيدٍ قليلة وحُرِمت منه الكثرة الكثيرة اختل توازن المجتمع ، لذلك تعدُّ هذه الآية على أنها جاءت عرضاً في سورة الحشر ، وفي قصَّة بني النضير ، إلا أنَّ هذه الآية لا يقلِّل من قيمتها ولا من شموليَّتها أنها وردت في هذه القصَّة ، لأن القواعد القرآنية تتجاوز مناسباتها ، ولعبرة لا بخصوص السبب ، بل بعموم الحكم .
الوضع الصحي أن يلد المالُ المالَ :
مثلاً : حينما تلد الأعمال المال ، المال يتولَّد ، من أين ؟ إما أن يتولَّد المال من المال ، أو أن يتولَّد المال من الأعمال ، فالوضع الصحيح ، والصحّي ، والسليم ، والذي يعيد المال إلى كل الناس أن يتولَّد المالُ من الأعمال ، فحينما تزرع أرضاً فأنت بحاجة إلى مهندس زراعي ، بحاجة إلى دواء لآفَّة معينة ، بحاجة إلى عمَّال لجنيِ المحصول ، بحاجة إلى علب أو عبوات لتعبئة المحصول ، بحاجة إلى وسائل لنقل المحصول ، بحاجة إلى تاجرٍ يبيع لك هذا المحصول ، أنت لا تشعر حينما تزرع أرضاً إلا ومئات الأشخاص قد شاركوك في هذا الربح ، فالعمل حينما يكون هو الأصل فريعُ هذا العمل يوزَّع بين أيدي مئاتٍ بل ألوف ، بهذه الطريقة فإن المال يتوزَّع بين الجميع ، ويكون متداولاً بين الجميع ، ولو أنك زرعت حقلاً فأنت بحاجة إلى آلاف الأشخاص ؛ من عمَّال ، من صاحبِ ناقلات ، من مهندسين .. إلخ .
إذا أسَّست عملاً تجارياً ، فإن ريع هذا العمل التجاري يوزَّع بين ألوفٍ مؤلَّفة ، وأنت لا تشعر ، إن كنت بحاجة إلى دفتر فواتير فأنت بحاجة إلى مطبعة ، والمطبعة تحتاج إلى آلات ، والآلات تحتاج إلى حبر وإلى موظَّفين ، وإلى عناصر كثيرة جداً من أجل أن تؤمِّن لك دفتر الفواتير .
دققوا أيها الإخوة ، الأعمال إذا ولدت المال كان المال متداولاً بين الجميع ، لذلك الإسلام لا يسمح للمال أن ينمو إلا من خلال الأعمال ، أما إذا سمحنا للمال أن يلد المال تجمَّع المال في أيدٍ قليلة ، وحُرِمت منه الكثرة الكثيرة ، فاختلَّ توازن المجتمع ، وصار الواحد يملك مليونًا ، ومليونٌ لا يملكون واحداً ، ومن اختلال هذا التوازن نشأت الاضطرابات ، نشأت أعمال العنف ، اتسعت السرقات ، الاغتصاب ، الاحتيال ، وكل أمراض المجتمع تنجم من اختلال توازن توزيع المال بين فئات المجتمع ، لذلك هذه قاعدة أساسية .
أيها الإخوة الكرام ، حياتنا الاقتصادية تشبه مخروطاً ، هذا المخروط له ارتفاع ، وله حلقات متناقصة في المساحة ، فكلَّما ارتفع السعر ضاقت الشريحة التي تستفيد من هذه السلعة ، لتكن فاكهةً ، لتكن لحماً ، لتكن أي شيء ، إذا ارتفع السعر ضاقت الشريحة ، إذا انخفض السعر اتسعت الشريحة ، وأوضح مثل هو الفواكه إذا رخصت اشتراها كل الناس ، فإن غلت اشتراها بعض الناس .
أيها الإخوة ، كل شيءٍ يؤدِّي إلى رفع السعر حرَّمه القرآن الكريم ، حرَّم الاحتكار ، الاحتكار ، ويمكن للمحتكر أن يربح أضعافاً مضاعفة ، أن يربح بالمائة خمسمائة ، لأن هذه البضاعة محصورةٌ فيه ، وله أن يجعل سعرها كما يشاء ، لذلك المحتكر خاطئ ، كما قال عليه الصلاة والسلام فعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ )) .
[ مسلم ]
لأن الاحتكار يرفع السعر ، وإذا ارتفع السعر ضاقت الشريحة المستفيدة من هذه السلعة ، فإذا ضاقت تمتَّع بها قلَّةٌ قليلة ممن يملك المال ، وحُرِمت منها كثرةٌ كثيرة ممن لا يملك المال ، إذاً : الذي رفع السعر هو الاحتكار ، الاحتكار محرَّم ، الذي رفع السعر هو الكذب والتدليس أحياناً ، توهم الشاري أن هذه البضاعة من نوع مُعَيَّن فيُقبِل على شرائها ، وهي ليست كذلك ، فالاحتكار والكذب والتدليس والغش ، وكل ما من شأنه أن يرفع الأسعار هو في الحقيقة يخلُّ بالتوازن بين أفراد المجتمع ، فهذه القاعدة الذهبية التي وردت في هذه السورة :
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
والآية التي تقابلها ، والتي توضِّحها :
﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾
( سورة البقرة : آية " 188 )
هذه الآية فيها روعة ما بعدها روعة ، ذلك أن مال أخيك سَمَّاه الله مالك ، لم يقل : لا تأكلوا أموال إخوانكم ، لا تأكلوا أموال غيركم ، لا تأكلوا أموال بعضكم ، بل إنه قال :
﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ ﴾
أي أن هذا المال مال أخيك ، هو من زاويةٍ واحدةٍ مالك ، هذه الزاوية أي أنك مطالبٌ أن تحافظ عليه كما لو أنه مالك ..
﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ ﴾
مال أخيك مالك من زاوية أنك مطالبٌ أن تحافظ عليه ، كيف أنك تحافظ على مالك ؟ كذلك تحافظ على مال أخيك .
إذا افتقر أخوك فأنت ملزمٌ به ، فإذا حفظت ماله حفظت نفسك ، وإن أخذت ماله ظُلماً أفقرته فضعُفت بضعفِه ، قال تعالى :
﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ ﴾
وهذه إشارة لطيفة إلى أن المال يجب أن يكون بين الناس جميعاً ، فلذلك سيدنا عمر رضي الله عنه كلَّما التقى بأحد الولاة أول سؤالٍ يطرحه عليه : << كيف الأسعار عندكم يا فلان ؟ >> ، لأن الأسعار إذا تدنَّت رحِمَ الله الناس بها ، وإذا ارتفعت شقي الفقير ، والإنسان أحياناً كما قال الإمام علي كرَّم الله وجهه : << كاد الفقر أن يكون كفراً >> ، والإنسان إذا افتقر لم يجد ما يأكل ، لم يجد ما يلبس ، لم يجد المال الكافي لزواجه أو لسكنه في مأوى ، فاختلف وضعه ، وأعرض عن الدين ، وفكَّر في الذي لا يرضاه الله عزَّ وجل ، فكل إنسان يُخِلُّ بهذا التوازن ، أو يحرم الناس حقَّهم الطبيعي هو ظالمٌ .
سيدنا عمر سأل أحد الولاة فقال : << ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ قال : أقطع يده ، قال : فإن جاءني من رعيَّتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك ، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسدَّ جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفِّر لهم حرفتهم ، فإن وفَّينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها ، إن هذه الأيدي خُلِقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية >> .
الربا من العبد مقابَلٌ بحربٍ من الله رسوله :
أيها الإخوة ، المال يكون متداولاً بين الناس من خلال الأعمال ، ويُجَمَّعُ المال في أيدٍ قليلة ، وتُحرَم منه الكثرة الكثيرة إذا نما ذاتياً عن طريق الربا ، لذلك أشدُّ المعاصي عند الله عزَّ وجل الربا ، لماذا ؟ لأنه يقضي على سلامة مجتمعٍ بأكمله ، فإذا نَمَّى الإنسانُ مالَه عن طريق الربا حرم الكثرة الكثيرة من ماله ، وجُمِّعت الأموال بأيدٍ قليلة ، والله سبحانه وتعالى تَوَعَّد المرابين بحربٍ من الله ورسوله :
﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ﴾
( سورة البقرة : الآية 279 )
وإلا ..
﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
( سورة البقرة : الآية 279 )
لأن المعصية تشتدَّ خطورتها إذا اتسعت رقعتها ، والإنسان قد يشرب الخمر وحده ، مَن يضرُّ ؟ يضر نفسه فقط ، أما إذا زنى فإنه أفسد فتاةً معه ، وإذا أكل الربا أفسد مجتمعاً بأكمله ، لأن المال قِوام الحياة ، وقد جعل الله المال قِوام الحياة .
لو أن شابًا مثلاً أمَّنت له عملا بدخل معقول ، وأمَّنت له مأوى فتزوَّج ، إذا تزوج انطلق إلى عمله نشيطاً ، وأمَّن فتاةً تبحث عن زوج ، فتاة وشاب تزوجا في مأوى ، وله عملٌ يعيش منه ، هذه أسرة ، هذه خلية من خلايا المجتمع صحيحة ، فإذا بُني المجتمع على أساس صحّي نما وتقدَّم ، فلذلك القاعدة الأولى :
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾
أي متداولاً .
المال الحلال والعمل المشروع واجب شرعي :
هذا البحث يطول جداً ، والمجتمع الإسلامي بأكمله مبنيٌ على هذه القاعدة : المال قِوام الحياة .. " وحبَّذا المال أصون به عرضي وأتقرَّب به إلى ربي " ..
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى ... )) .
[ متفق عليه ]
وقد أمسك النبي عليه الصلاة والسلام بيد عبد الله بن مسعود ، وكانت خشنة من العمل ، أمسكها ورفعها وقال :
(( إن هذه اليد يحبها الله ورسوله )) .
[ ورد في الأثر ]
وهناك عشرات الأحاديث الصحيحة تبين أن الإنسان حينما يعمل من أجل أن يكفي نفسه ، ويكفي أهله ، وأن يتقرَّب إلى ربه ، وكان عمله مشروعاً ، وسلك فيه الطُرُقَ المشروعة ، ولم يشغله عن فريضةٍ أو واجبٍ ديني انقلب العمل إلى عبادة ، والأدلَّة على هذا كثيرة :
حينما سأل النبي عليه الصلاة والسلام شاباً يصلي في المسجد فقال له :
(( من يطعمك ؟ قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك )) .
[ ورد في الأثر ]
ومرَّةً أثنى الصحابة على رجل فقال :
(( من يطعمه ؟ قالوا : كلُّنا نطعمه ، قال : كلكم أعبد منه )) .
[ ورد في الأثر ]
وقد التقى عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه رجلاً يقرأ القرآن ، فقال : << إنما أُنزِل هذا القرآن ليُعمَل به ، أفاتخذت قراءته عملاً ؟ >> .
المسلمون الآن يجب أن ينهضوا عن طريق العمل ، والعمل في الإسلام مقدَّس ، وحينما يعمل الإنسان فإنه يتألَّق ، وحينما يعمل ، ويكسب مالاً حلالاً ، وينفقه لحلِّ مشكلات الناس يرقى عند الله عزَّ وجل .
إذاً القاعدة الأولى :
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾
أيّ سلوكٍ يُجَمِّع الأموال في أيدٍ قليلة فهو محرَّم ، لو عُدتم إلى كتب الفقه لوجدتم أن مئاتٍ من التصرُّفات حرَّمها النبي عليه الصلاة والسلام لأنها تؤدي في النهاية إلى تجميع الأموال في أيدٍ قليلة ، لذلك :
(( أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة )) .
[ الترغيب والترهيب عن ابن عباس ، وسنده ضعيف ]
ولا يكون مطعمك طيباً إلا إذا كنت صادقاً فيه ، ومتقناً له ، مخلصاً في أدائه ، مطبقاً منهج الله في التعامل معه ، عندئذٍ يكون الكسب حلالاً ، فإن اشتريت بهذا المال طعاماً كان هذا الطعام طيباً ، فإذا طاب مطعمك كنت مستجاب الدعوة ، دققوا ، هذا هو الدين ، الدين أن ننطلق جميعاً إلى أعمالنا بإخلاص ، بإتقان ، بصدق ، بأمانة ؛ دون كذب ، دون تدليس ، دون احتكار ، دون استغلال ، دون إخفاء عيوب ، دون إيهام ، وكل سلوكٍ من شأنه أن يضرَّ المشتري فهو محرَّم ، كل سلوكٍ فيه إخفاء حقيقة عن المشتري فهو محرَّم ، فإذا استقمنا في تجارتنا أكرمنا الله عزَّ وجل بالرزق الحلال .
﴿ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
( سورة الجن )
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾
( سورة الأعراف : الآية 96 )
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ ...)) .
[ أبن ماجه ، أحمد ]
أيها الإخوة الكرام ، لا يوجد أروع من إنسان أدَّى صلواته الخمس ، وانطلق إلى عمله ليثبت للناس أن الإسلام منهجٌ كامل ، فيجب أن يكون المؤمن في عمله ملفتاً للنظر بصدقه ، باستقامته ، بأمانته ، بعدم غشَّه ، والله عزَّ وجل وحده هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين .
هذه آية وردت في سورة الحشر ، وفي معرض الحديث عن بني النضير ، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلَّم أخذ هذا المال ، وأعطاه للمهاجرين دون الأنصار ، الأنصار تبوءوا الدار والإيمان ، وهم مقيمون في بلدهم ، عندهم بساتينهم ، عندهم منازلهم .
أما هؤلاء المهاجرون فقد أتوا من مكَّة بلا مال ، بلا ضياع ، بلا بساتين ، بلا بيوت ، آثروا الله ورسوله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام استشار الأنصار ، فكان جواب الأنصار ملفتاً للنظر ، إما أن نعطيهم هذا الفيء ، وأن ينزلوا لكم عن كل ما أعطيتموهم ، وإما أن نُقَسِّمه بينكم سويَّةً ، فقالوا : " بل يبقون عندنا كما كانوا ، ونؤثرهم بهذا المال " .
الحقيقة إذا كنَّا نريد نموذجين من المؤمنين متعاونين إلى أقصى الدرجات فعلينا أن ندرس حياة الأنصار والمهاجرين ، لذلك جاءت الآية الكريمة :
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾
القاعدة التشريعية الثانية : وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
هذا القرآن الكريم وحي الله إلى بني البشر ، وحي السماء إلى الأرض ، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام كل ما قاله موضحاً لهذا الكتاب يُعَدُّ مصدراً ثانياً من مصادر التشريع ، فهناك وحي متلو هو القرآن الكريم ، ووحيٌّ غير متلو هو تشريع النبي عليه الصلاة والسلام ، وإن ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام هو تبيّينٌ ، وتفصيلٌ وتوضيحٌ لما جاء في كتاب الله ، فلذلك كل من أراد أن يلغي سُنَّة رسول الله يقع في مطبٍِّ كبير ، وهو يكذِّب القرآن الكريم ، لأن القرآن الكريم يقول :
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب :
وذكرت هذا قبل قليل أن خصوصية السبب لا تُلغي عموم الحكم ، لعلَّ سياق هذه الآية : أن أيها الأنصار ، أو أيها المهاجرون ..
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ ﴾
من غنائم فخذوه ، وما لم يؤتكم فلا تعترضوا على ذلك ، إنه لا ينطق عن الهوى .
إن الأنبياء وحدهم يتحرَّكون وفق أمر الله لهم ، حتى في تفاصيل سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ما تحرَّك حركةً إلا بأمر الله ، فلذلك هو في أقواله مشرِّع ، وفي أفعاله مشرِّع ، وفي إقراره مشرِّع ، وفي أحواله مشرِّع ..
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
ولكن إذا تجاوزنا موضوع الغنائم والفيء إلى ما هو أوسع ؛ كل أقوال النبي تشريع ، وكل نهي النبي تشريع ، وكل إقرار النبي تشريع ، وكل عدم إقرار النبي تشريع ، وكل أحوال النبي تشريع ، لذلك عَرَّفوا سنَّته بأنها : أقواله وأفعاله وإقراره وأحواله ..
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
أعداء الدين متأكِّدون أنهم لن يستطيعوا أن يواجهوا هذا الدين إلا من بابٍ خفي ، تارةً بإلغاء السنَّة ، وتارةً بتأويل القرآن تأويلاً لا يرضي الله عزَّ وجل ، فالمسلم يجب أن يكون يقظاً ، وأية دعوةٍ إلى ترك السنَّة هي دعوةٌ إلى مخالفة القرآن الكريم ، لأن القرآن الكريم يقول :
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
فهاتان الآيتان اللتان وردتا في سورة الحشر في سياق إجلاء بني النضير هما قاعدتان أساسيتان في المجتمع الإسلامي ، المصدر التشريعي الكتاب والسنَّة ، الكتاب وحي السماء إلى الأرض ، والسنَّة تبيين النبي عليه الصلاة والسلام .
والقاعدة الثانية : أن الإنسان بعد أن يُخلَق ، وبعد أن يهتدي إلى الله قِوام حياته المال ، هذا المال في مبادئه العريضة يجب أن يكون موزَّعاً بين كل الفئات ، فلذلك الإنسان ترتاح نفسه إذا رأى الناس جميعاً في حالة سَمَّاها النبي الكفاية ، فعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا ، وَقَنَعَ )) .
[ الترمذي ]
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
الكفاف لا يعني الفقر ، كما أنه لا يعني الغنى ، أي أن تجد ما تغطي به حاجاتك ، أن يكون دخلك مقابلاً لنفقاتك المعقولة ، لكن الناس يلهثون وراء الغنى ، ووراء الترف ، ووراء التبذير ، قد يقول لك : أنا فقير ، لأنه لا يجد ما ينفقه على ملاذِّه غير المشروعة ، وكلكم يعلم أن الإنسان إذا أنفق مالاً على معصيةٍ سمِّي مبذِّراً ، وأنه إذا أنفق مالاً في مباحٍ أكبر مما يجب سمِّي مسرفاً ، وربنا عزَّ وجل نهى عن الإسراف ، ونهى عن التبذير ، وقال بعضهم : من دَخَّن وهو غني عُدَّ مبذِّراً ، ومن دخَّن وهو فقير ماذا نسميه ؟ سفيهاً ، السفيه هو الذي ينفق ماله بغير حكمة ، هذا مال أولاده ، وقوت أولاده ، وقِوام حياته أنفق نصفه على ما يؤذيه ، فمن دخَّن وهو غني عُدَّ مبذِّراً ، ومن دخَّن وهو فقير عُدَّ سفيهاً ، فلذلك هنا :
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾
أي أطيعوه .
﴿ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
القضية أعمق من ذلك ، هذا هو الحق ، وهذا هو الباطل ، يجب أن يكون المال متداولاً بين الناس ، يجب أن يكون المصدر التشريعي القرآن والسنَّة ، إن أبيتم ذلك فهناك علاجٌ إلهي ..
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(25) ﴾
( سورة الأنفال )
الإنسان بين تكريم الله له والتضييق عليه :
هذا ينقلنا إلى موضوع دقيق ؛ هو أن الله رب العالمين أمرَ ونهى ، ولكنه يتابع ما تفعله أنت أيها الإنسان ، إن اتخذت قراراً سليماً شجَّعك على ذلك ، وشرح صدرك ، وأكرمك وأعطاك ، ورفع قدرك ، وإن اتخذت قراراً سيئاً ، اتبعت شهوتك ، وآثرت الدنيا على الآخرة ، ضيَّق صدرك ..
﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾
( سورة الأنعام : الآية 125 )
ثم عالجك .
النقطة الدقيقة هنا أن القضية أكبر من أنَّه أمر ونهى ، لا ، أنت افعل ما تريد ، هو يتابعك لأنه ربك ، وأنت يمكنك أن تقوم بتعيين موظف ، وأن تقول له : هناك شهران للتدريب ، فإما أن أقبلك بعد شهرين موظَّفاً دائماً ، وإما أن أصرفك ، أنت بإمكانك أن تراقبه مراقبةً دقيقة ، وأن تسجِّل عليه كل أخطائه ، فإن كثرت هذه الأخطاء صرفته ، واستغنيت عن خدماته ، أنت بهذا لست مربياً ، إنك صاحب عمل ، لكنك لست مربياً ، أما لو أن هذا الإنسان المتمرِّن كنت حريصاً عليه فإنك عند أول خطأٍ تنبِّهه قائلا : هذا الخطأ لا تعِده ، عند أول انحرافٍ تلفت نظره ، تقوَّم نفسه ، موقف المرِّبي أكمل بكثير ، وحينما تتخذ قراراً سليماً يشجعك رب العالمين ، ويشرح صدرك ، وهذه معاونةٌ منه لك ، ويكافئك ، ويرفع قدرك ، أما حينما تتخذ قراراً خاطئاً فإنه يضيِّق صدرك ..
﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾
وهذا التضييق في الصدر معاونةٌ لك من أجل أن تترك هذا السلوك ، أحياناً يسوق لك الشدائد ، أحياناً يضيِّق عليك ، لذلك ربنا عزَّ وجل شديد العقاب ، أي يتابع الأمور ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
(( إذا أحبَّ الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، وإن شكر اقتناه )) .
[ الجامع الصغير عن أبي هريرة وابن مسعود ]
(( إذا أحبَّ الله عبده عاتبه في منامه )) .
[ الجامع الصغير عن أنس بسند ضعيف ]
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا )) .
[ الترمذي ]
(( إذا أراد الله بعبده خيرًا جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه )) .
[ الجامع الصغير عن أم سلمة بسند ضعيف ]
إذا وجد الواحد منَّا نفسه في متابعة من الله ، وفي عنايةٍ مشدَّدة فليحمد الله على هذا كثيراً ، أما إذا وجد نفسه ينحرف ، ولا يُحاسب ليعلم أن الله يمقته ، وأنه أخرجه من دائرة العناية المشدَّدة ، فالذي نرقى به عند الله أن نكون في دائرة العناية المشدَّدة ..
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
إن الإنسان إما أن يأتي الله طائعاً ، وإما أن يأتيه كرهاً ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ )) .
[ البخاري ]
سلاسل الامتحان والتأديب والتضييق .
على كلٍ ، الإنسان إن وصل إلى الله بأية طريقة فهو من الفائزين ، إما أنه يأتي الله طوعاً ، أو يأتيه عقِب تضيقٍ أو تشديد .
هؤلاء هم المهاجرون :
1 ـ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
لِمَن الفيءُ ؟
لكن هذا الفيء لمن ؟ قال الله عزَّ وجل :
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾
( سورة الحشر : الآية 8 )
إنسان مستقر في بلده ؛ له دكَّان ، له منزل ، له بستان ، له مركز ، له أقرباء ، ما ذنب هؤلاء المهاجرين ؟ لهم ذنبٌ واحد ؛ أنهم آمنوا بالله ورسوله ، عندما آمنوا بالله ورسوله ضَيَّق عليهم كفَّار قريش ، ونكَّلوا بهم حتى حملوهم على الهجرة ، قال تعالى :
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ﴾
الفقر ليس وصمةَ عارٍ :
بالمناسبة ، لا يمكن أن يكون الفقرُ وصمة عارٍ في حق الإنسان ، وصمة العار هي المعصية .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ )) .
[ الترمذي ]
إن الإنسان لا ينبغي أن يستحي من الفقر بل ينبغي أن يستحي من المعصية ، هؤلاء قِمَمٌ عند الله عزَّ وجل وهم فقراء ، والمهاجرون لأنهم آمنوا بالله ورسوله تركوا أموالهم ، تركوا بيوتهم ، تركوا تجارتهم ، تركوا بساتينهم ، تركوا أهلهم ، ونصروا النبي عليه الصلاة والسلام ، وجاءوا معه ، ولو أن رجلاً منَّا له بيت ، ومتجر ، وبيت في المصيف ، ومركبة ، فجأةً أُخِذ ووُضِع على رصيف في مدينة بعيدة ، وليس في جيبه درهمٌ واحد ، هذه هي الهجرة ، اقتلاع من الجذور ، إنسان متمكِّن له دخل ، له بيت ، له مأوى ، له متجر ، له مكانة ، يأتي إلى بلد آخر بعيد لا شيء معه إطلاقاً ، فالفقر ليس وصمة عارٍ في حقِّ الإنسان ، بل بالعكس ، كن مستقيماً واللهُ سبحانه وتعالى يغنيك ، أما لو أنَّ الإنسان عصى ربَّه لو أنه غني فإنّ الله عزَّ وجل يؤدِّبَهُ على غنى ..
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾
2 ـ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
نحن ماذا نبتغي ؟ هل نبتغي طاعة الله ؟ هل نبتغي فضل الله العظيم ؟ هل نبتغي جنَّته ؟ هل نبتغي محبَّته ؟ هل نبتغي خدمة خلقه ؟ هل نبتغي نشر دينه ؟ هل نبتغي معونة الضعفاء والمساكين ؟ هل نبتغي عملاً صالحاً يقرِّبنا إليه ؟ قال تعالى :
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾
3 ـ وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أنت أحياناً تنصر هذا الدين بالصدق ، تنصره بالأمانة ، تنصره بأداء العبادات ، تنصره بحضور مجالس العلم ، تنصره بتكثير سواد المسلمين ، هناك مليون طريق يمكن من خلالها أن تنصر هذا الدين ، إذا كنت صادقاً فهذا نصرٌ للدين ، إذا كنت أميناً فهذا نصرٌ للدين ، إذا كنت مخلصاً فهذا نصرٌ للدين ، إذا كنت متقناً فهذا نصرٌ للدين ، إذا كنت عفيفاً فهذا نصرٌ للدين ، إذا كنت معطاءً فهذا نصرٌ للدين ، هؤلاء المهاجرون الفقراء ..
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ ﴾
4 ـ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ
لماذا هم صادقون ؟ لأن أفعالهم أكَّدت أقوالهم .
قال لك شخصٌ : لو أتيتني لأعطيتك ما تريد ، طرقت بابه ، وقلت له : أعطني فأعطاك ، كلمته السابقة هل هو صادقٌ بها أم كاذب ؟ ما دام قد أعطاك فهو صادق ، هؤلاء المهاجرون آمنوا بالله ، وكلٌ منَّا بإمكانه أن يَدَّعي الإيمان بالله ، لكنهم آمنوا وهاجروا ، آمنوا وآثروا ، آمنوا وأنفقوا ، آمنوا وجاهدوا ، آمنوا وضحوا بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، آمنوا فجاءت أفعالهم مؤيدةٌ لأقوالهم ، هذا برهان ، و النبي قال :
(( وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ )) .
[ الترمذي عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ ]
المال محبَّب ، أما إذا أنفقته فإنك تؤكِّد لنفسك ولمن حولك ولربك أنك صادق ، غض البصر يؤكِّد إخلاصك لله ، ضبط اللسان يؤكِّد إخلاصك لله ، فهؤلاء المهاجرون ..
﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ ﴾
أما الأنصار .
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾
( سورة الحشر : الآية 9 )
هؤلاء هم الأنصار :
1 ـ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
هم في بلادهم ، وبيوتهم ، وبساتينهم ، لكن الإيمان دخل إلى أعماقِ أعماقهم .
﴿ تَبَوَّءُوا الدَّارَ ﴾
وكانوا بإيمانهم مخلصين ..
﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾
2 ـ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
هذه علامة الإيمان ، أن تحبَّ المؤمنين ، أن لا ترى المؤمن عبئاً عليك ، مؤمن أتاك تستقبله بالترحاب ، تؤثره بما عندك .
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾
يحبونهم .
عنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ )) .
[ متفق عليه ]
وفيما بيننا أن يحب بعضكم بعضاً هذا من علامة إيمانكم ، أما فلان أحقد عليه ، فلان أغار منه ، فلان أحسده ، فلان أتمنَّى دماره ، فلان أتمنى أن لا ينجح لئلا يفوز عليّ ، هذه علامة النفاق ، حبُّ المؤمنين إيمان ، وبغضهم نفاق ..
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾
هذا وصف الله لهم .
﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ﴾
3 ـ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
لما آتاهم النبي فيء بني النضير .. آتى المهاجرين أمام أعين الأنصار ، تحت سمعهم وبصرهم ، وما شعروا بشيء ، ما شعروا بالحرج ، ما تألَّموا ، ما اغتاظوا ..
﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾
4 ـ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
المؤمن ينطلق من الإيثار ، يؤثرون على أنفسهم إخوتهم المؤمنين ، مع أنهم في أشدِّ الحاجة إلى هذا المال .
قد تقول لإنسان : خذ هذه الحاجة ، أنت لا حاجة لك بها ، فائضة عن حاجتك ، فتعطيها ، هذا عطاء ولا شك ، لكن قيمته تقلّ ، أما حينما تكون في أَمَسِّ الحاجة إلى شيء وتعطيه أخاك المؤمن ، حينها انطبقت عليك هذه الآية :
﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾
والله أعرف إخوة مؤمنين استطاع أن يؤمِّنوا بيتاً ، فإنْ خطب أخاه ، وليس له بيت آثره به ، وقال له : أنا بعد حين أبحث عن بيت ، خذه ، والحقيقة أننا لا نرقى عند الله إلا بالمؤاثرة ، والإنسان إذا عاش في مجتمع فيه مؤاثرة يصير المجتمع جنَّة الله في الأرض ..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ ، فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا ، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ ، فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا )) .
[ الترمذي ]
هذا وصف دقيق جداً ، وهؤلاء نماذج يجب أن تكون متكررة ، أنا لا أسمي مجتمع الإيمان مجتمعاً حقيقياً إلا إذا كان فيه أنصار ومهاجرون ، انظر إلى هذا الوصف :
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾
على فَقْرِهِ ، وعلى ضيق ذات يده ، وعلى حاجته الماسَّة يُعطي أخاه المهاجر ، خذ مالي ، خذ نصف مالي ، خذ هذه الدكان ، خذ هذا البستان ، والمهاجرون في أعلى درجات العِفَّة ، بارك الله لك في مالك ، ولكن دلَّني على السوق .
إن لم نعش حياة هؤلاء فلسنا مسلمين :
إخواننا الكرام ، إن لم نعش حياة هؤلاء فلسنا مسلمين ، يجب أن نعيش حياتهم ، أن نعيش محبَّتهم ، أن نعيش مؤاثرتهم ، أن نعيش تعاونهم ، أن نعيش علاقتهم المتينة فيما بينهم ، فلذلك يد الله مع الجماعة
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، وَمَنْ شذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ )) .
[ الترمذي ]
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ ، يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ )) .
[ أحمد ]
﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ
1 ـ الشح مرضٌ خطير :
هذه الآية إن شاء الله لنا عودة إليها في الدرس القادم لأنها مهمَّة جداً ، فيها تفصيلات دقيقة جداً ، ولكن أخطر مرضٍ يصيب النفس هو الشُح ، والشح أهلك من كان قبلنا ، وإذا وقي الإنسان من شُحِّ نفسه فقد أفلح ونجح ، والشُحُّ أن تأخذ ما ليس لك ، الشُحُّ أن تبيع دينك بعرضٍ من الدنيا قليل ، الشح مرض الأمراض ، كل الأعراض الخطيرة هي أعراض لمرض واحد وهو الشُح .
﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾
والله عزَّ وجل هو الرزَّاق ذو القوة المتين .
2 ـ هؤلاء بريئون من الشح :
أيها الإخوة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( برئ من الشح من أدَّى زكاة ماله ، وأعان على النائبة)) .
[ الجامع الصغير عن خالد بن زيد حارثة ، وفي سنده ضعف ]
(( برئ من الشح من أقرى الضيف )) .
[ ورد في الأثر ]
الذي يعين على النائبة برئ من الشح ، والذي يقري الضيف برئ من الشح ، والذي يؤدي زكاة ماله برئ من الشح ، أما إذا قتَّر على نفسه لحكمةٍ يراها ليس لك أن تسميه شحيحاً إطلاقاً ، ومن أدى زكاة ماله ، وأقرى الضيف ، وأعان على النائبة فإنه ليس شحيحاً ، وهذه قواعد قَعَّدها النبي عليه الصلاة والسلام :
(( من حمل سلعتَه فقد برئ من الكبر )) .
[ الجامع الصغير عن أبي أمامة ، وسنده ضعيف ]
(( من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق )) .
[ الجامع الصغير عن أبي هريرة ، وفي سنده ضعف ]
هذه الآية الأخيرة إن شاء الله تعالى ، وإن أحيانا الله الأسبوع القادم فلنا عودة إليها تفصيلية إن شاء الله تعالى .
والحمد لله رب العالمين
