سورة الطور 052 - الدرس (1): تفسير الأيات (01 – 16) - عدم إيمان الكافر بالوعيد الإلهي رغم آيات الله الدالة على عظمته

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الطور 052 - الدرس (1): تفسير الأيات (01 – 16) - عدم إيمان الكافر بالوعيد الإلهي رغم آيات الله الدالة على عظمته

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الطّور

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الطور ـ الآيات: (01 - 16) - عدم إيمان الكافر بالوعيد الإلهي رغم آيات الله الدالة على عظمته

14/08/2013 18:23:00

سورة الطور (052)
 
الدرس (1)
 
تفسير الآية: (1-16)
 
عدم إيمان الكافر بالوعيد الإلهيرغم آيات الله الدالة على عظمته
 
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون مع الدرس الأول من سورة الطور .
 
 قسم الله عز وجل يدل على أن المقسم به شيء عظيم :
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ *وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ* إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ *مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾
هذه الصيغة صيغة قسم :
﴿وَالطُّورِ﴾
والقسم في القرآن يدل على أن المقسم به شيءٌ عظيم بالنسبة إلينا .
الله جل جلاله هو العظيم ، ولا عظيم سواه ، أما إذا جاءت واو القسم مع كلمات في فواتح السور ، فهذه الكلمات تعني أنها أشياء يجب أن نفكر فيها .
 
 معنى الطور :
 
1 ـ الجبل :
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَالطُّورِ﴾
 
والطور في أصل اللغة الجبل الأخضر ، الجبل المشجر ، إما أنه آية من آيات الله الدالة على عظمته ، أو أنه الجبل الذي كلم الله موسى عليه السلام عنده ، وإما أنه آية كونية ، وإما أنه مكان مقدس .
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ﴾
 (سورة التين : 1 ـ 2(
﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾
 (سورة التين)
هو الجبل بمدين الذي كلم الله موسى عنده تكليماً .
 
 الهدف من وجود الجبال :
 
نحن مخيرون بين أن نفهم الطور كآية كونية دالة على عظمة الله إذْ الجبلُ من الآيات التي أشار القرآن إليها ، هذا الجبل  الذي نراه بأعيننا  ثلثه فوق الأرض ، وثلثاه تحت الأرض ، وهذه الجبال تارة وصفها القرآن بأنها أوتاد ، وتارة رواسٍ ، وتارة مستودعات للمياه ، وتارة تزيد مساحة الأرض  وتلطف الجو ، هناك أهداف كثيرة جداً ، وحكم بالغة من خلق الجبال لا يعلمها إلا الله ، ويعلم بعضها المتخصصون ، أوتاد تربط طبقات الأرض بعضها ببعض ، ورواسٍ تعين على ثبات حركة الأرض ، لأن الأرض من دون هذه الجبال تضطرب في دورانها ، فجعلها رواسيَ ممّا يجعل دورانها مستقراً ، والجبال مستودعات ضخمة للمياه ، فالأنهار التي تزيد كثافتها عن ثلاثمئة ألف متر مكعب في الثانية أين مستودعاتها ؟ فالجبال مستودعات ، والجبال أوتاد ، والجبال رواسٍ ، والجبال تلطف الأجواء في الأرض ، الجبل متنفس بالصيف ، والجبل يزيد مساحة الأرض ، والجبل يعد مَصَداً للرياح ، فهناك أهداف كبيرة من وجود الجبال ، فمناخات الأرض تتحدد بحسب الجبال ، اذهب إلى الشمال تجد في حمص رياحاً عاتية تنفذ إليها من فتحة نحو البحر ، أما قبل حمص وبعد حمص فهناك سلاسل جبلية تمنع حركة الهواء الحادة إلى الداخل ، حكم خلق الجبال لا يعلمها إلا الله ، ولكن الجبل يعد آية من آيات الله الدالة على عظمته .
 
الجبال من آيات الله الدالة على عظمته :
 
الجبال كتلٌ من الصخور ، فأحياناً ترى مقالع أحجار من الجبال منذ خمسين عاماً ، ولم يتأثر شكل الجبل ، فكم في هذا الجبل من صخور وكم فيه من الرمال ، وكم فيه من كتل صخرية لا يعلم حجمها إلا الله عز وجل .
﴿وَالطُّورِ﴾
 
هذا معنى أول إذا أخذنا الطور على أنه جبل أخضر ، وعلى أنه آية من آيات الله الدالة على عظمته .
2 ـ المكان المقدس :
أما إذا أخذناه مكاناً مقدساً ، كلم الله عنده موسى عليه السلام ، فهذا معنىآخر ، فمن آيات الله الدالة على عظمته أيضاً أنه أوحى إلى أنبيائه ، أنه لم يدع الناس بلا رسالة ، لم يدعهم بلا تنبيه ، بلا إرشاد ، بلا تحذير ، بلا توضيح ، من رحمة الله عز وجل أنه خلق الخلق وأرشدهم إليه ، كما يشق الطريق وتوضع العلامات على جانبيه ، فهنا منزلق خطر ، هنا منعطف حاد ، هنا جسر ، هنا طريق رئيسي ، هنا تقاطع خطر ، هذه الإشارات بعد شق الطرقات مفيدة جداً ، فالله سبحانه وتعالى خلق الأرض ونوّرها ، نوّرها بالوحي ، فأنت تعلم لماذا أنت مخلوق ، ما الهدف من وجودك ؟ ماذا بعد الموت ؟ لماذا المرض ؟ لماذا الخوف ؟ لماذا الفقر ؟ لماذا الدنيا قصيرة ؟ لماذا الآخرة أبدية ؟ فالله سبحانه وتعالى نوّر الأرض بالوحي ، ووضّح لعباده سر وجودهم وغاية وجودهم ، فكأن الجبل يدل على الله ، لكن الوحي يدلنا على طريقة عبادته ، بالجبل نتعرف إليه ، وبالوحي نتعرف إلى منهجه ، بالجبل نعرفه وبالوحي نطيعه ، بالجبل نعرفه وبالوحي نعبده ، فإذا أردت الجبل كآية تدل على عظمته ، وإن أردت الجبل كمكان مقدس عنده كلّم اللهُ موسى تكليماً .
معنى ذلك أن رحمة الله عز وجل تقتضي أن ينزل على أنبيائه كتباً ، وأن يوحي إلى صفوة خلقه ، وأن يبلِّغهم ماذا ينبغي أن يبلغوه للناس .
يعني ما مِن أب في قلبه ذرة رحمة إلا ويملأ أذن ابنه نصائح وتوجيهات ، وتحذيرات ، وبيانًا ، وتفصيلاً ، وإعلاماً ، وتحذيراً ، وتبشيراً  فالأب الكامل ، فضلاً عن أنه هيأ لابنه بيتاً ، وغرفةً ، ومدرسين ووفّر له نفقاته ، كما وفّر له كل حاجاته ، وأهم من كل هذا توجيهات الأب ونصحه  ، وتعليمه ، هذا أهم من الأشياء المادية .
 
 الجبل رمز لمعرفة الله أو عبادته :
 
فالجبل إما أنه آية تدل على عظمة الله ، وإما أنه مكان يشير إلى نزول الوحي من السماء ، وإلى أن الخالق العظيم لا يدع خلقه بلا أمرٍ ولا نهيٍ ، بلا بيانٍ ، بلا تحذيرٍ ، بلا تبشيرٍ ، بلا تعريفٍ ، والقرآن الكريم يدور كله حول التعريف بخالق هذا الكون ؛ إنه موجود ، وهو واحد لا شريك له ، وهو كامل ، والتعريف بقصص الأنبياء السابقين والتعريف بالمنهج التفصيلي ، والتعريف بمصير البشرية ، بحال الإنسان بعد الموت ، فبالكون نعرفه و بالشرع نعبده ، والجبل رمز إلى معرفة الله أو إلى عبادته ، إذا قلنا الجبل الأخضر آية دالة على عظمة الله ، إذا قلنا مكان مخاطبة الله عز وجل لسيدنا موسى دليل الوحي ، وأن الله لرحمته بخلقه ، وحرصه على هداهم ، والأخذ بيدهم إلى سعادة الدارين ، أوحى إلى أنبيائه ليبلغوا الناس .
 
 وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ : للكتاب عدة معان منها :
 
﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾
هذا الكتاب إما أنه الألواح التي تلقاها سيدنا موسى عليه السلام ، وإما أنه القرآن الكريم الذي أنزله على سيد المرسلين ، وإما أنه مطلق الكتاب ، أيّ كتاب سماوي .
 
منهج الله لعبادة في الأرض :
 
على كلٍ هناك طور ، وهناك :
﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ﴾
منهج ، أنت إذا دخلت إلى بناء جامعة ، قد تستنبط أن هذه الأقواس رائعة ، فالمهندس على مستوى رفيع ، وأنّ القاعات فيها واسعة ، وهناك وحدة صوتية جيدة ، وأن الحدائق غناء ، وأنّ بيوت الطلبة مجهزة بكل وسائل الراحة ، لك أن تستنبط من البناء ، المخابر ، وقاعات التدريس ، والحدائق ، وبيوت الطلبة ، أشياء كثيرة جداً ،  لكن لو تأملت مئة عام في بناء الجامعة  فهل يمكن أن تعرف نظامها الداخلي ؟ وهل يمكن أن تعرف عدد الكليات ومنهج كل كلية وأسماء المدرسين ، لن تعرف ذلك إلا إذا قرأت الكتيب الخاص بالجامعة ، ففيه شيء يُستنبط ، وفيه شيء يقرأ ، فالكون يدل على الله ، أما القرآن فيه تفاصيل الأمر والنهي ، والله عز وجل يقول :
 
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
 (سورة الأنعام : 1(
وفي آية ثانية يقول عنه :
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾
 (سورة الكهف : 1(
كأن الكون كله في كفة ، وكتاب الله في كفة ، يعني كما أنه خلق  فقد أوحى ، خلق وأرشد ، وخلق ونوّر ، خلق وبيّن ، خلق ووضّح .
 
الكتاب هو المصدر الأول في الدين الإسلامي :
 
الله سبحانه وتعالى قال :
 
﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ﴾
فالكتاب المصدر الأول في الدين الإسلامي ، كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، غنى لا فقر بعده ، غنىً لا غنىً فوقه .
(( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ))
[أخرجه البخاري عن عثمان]
خير جهاد تجاهده أن تتعلّم القرآن وأن تعلِّمه ، والدليل :
 
﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾
 (سورة الفرقان : 52(
منهج خالق السماوات والأرض ، كل كلمة قاعدة ، كل حرف نظام أحياناً ، الحركة لها معنى ، الحرف له معنى في كتاب الله ، هذا ليس كلام بشر ، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، هذا هو الكتاب المقرر ، طالب على مشارف الامتحان ، وبالامتحان يتخرج ، والشهادة عليا ، ويعلق هذا الطالب على تخرجه آمالاً عظاماً وبقي للامتحان ساعات ، أيقرأ غير الكتاب المقرر ؟ يكون أحمق عندئذٍ ، فهناك ألفُ كتاب وكتاب ، ما يطبع في اليوم من كتب في العالم ، لا يمكن أن تقرأه في مئة عام ، هذه كلها كتب كتبها أشخاص فيها الخطأ والصواب ، فيها الحقائق والأوهام ، فيها الحق والباطل .
 
القرآن الكريم  كتاب محكم من عند الخالق :
 
 الكتاب الذي لا باطل فيه ، ولا وهم فيه ، ولا ظن فيه ، هو القرآن ، وكله محكم من عند الله عز وجل :
﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾
 (سورة هود : 1(
هو كلام الله ، هذا كتابنا المقرر ، يجب أن نقرأه صباحاً ومساء  ليلاً ونهاراً ، يجب أن نفهم أبعاده ، مراميه ، محكمه ، متشابهه ، ناسخه ومنسوخه ، حلاله وحرامه ، أمره ونهيه ، وعده ووعيده ، غيبه الماضي ، غيبه الحاضر ، غيبه المستقبل ، هذا كتابنا المقرر ، كلام الله عز وجل ، والله لا أعجب إلا من إنسان قرأ كتاب الله ثم استهواه شيء آخر ، لك أن تقرأ أي شيء ، ما دام هذا الشيء يقربك من كتاب الله ، لك أن تقرأ بحثاً علمياً يوضح لك آية كونية ، لك أن تقرأ بحثاً فقهياَ  يوضح لك آية فقهية في كتاب الله ، تقرأ له ومن أجله ، ومن أجل معرفته .
 
الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو : 
 
1 ـ الكعبة المشرفة :
﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ﴾
قالوا : الكعبة المشرفة ، البيت المعمور بالحجاج .
2 ـ أو بيت على سمت الكعبة في السماء :
وقد ورد في بعض الأحاديث أن البيت المعمور هو بيت على سمت الكعبة في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك .
3 ـ أو الأرض :
وقالوا البيت المعمور هي الأرض لأن فيها كل شيء ، كل حاجات الإنسان في الأرض موجودة .
4 ـ أو الحرم المكي الذي نزل فيه جبريل على سيدنا محمد :
لك أن تفهم البيت المعمور ؛ هو هذا البيت المقدس الذي نزل فيه الوحي ، كيف أن الطور هو الجبل الذي كلم الله عنده موسى تكليماً ، وكأن هذا المكان المقدس إشارة إلى هذا الوحي العظيم ، كذلك البيت المعمور هو الكعبة المشرفة ، أو الحرم المكي الذي نزل فيه جبريل الأمين على قلب سيدنا محمد سيد المرسلين بهذا القرآن العظيم ، هذا هو البيت المعمور ، وإما أنه بيت تدخله الملائكة في السماء ليعبدوا الله فيه ، وقد ورد هذا في بعض الأحاديث ، وإما أنه بيت الله الحرام يؤمُّه الحجاج ، معمور بالحجاج  ، وإما أنه مطلق الأرض ، لأن فيها كل شيء ، والبيت المعمور .
 
 السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ هو السماء التي خلقها تعالى :
 
لا زلنا في مفردات القسم :
 
﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ*وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾
هذه السماء .
 
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً﴾
 (سورة الأنبياء : 32(
ورد في تفسير هذه الكلمة بأنها هي السماء ، السماء بناء ، وفي السماء مليون مليون مجرة ، وفي المجرة الواحدة مليون مليون كوكب ونجم ، وهذه الكواكب والنجوم ، كلها في حركة دائمة ، في مسار مغلق بعضها حول بعض ، أحجامها متفاوتة ، مساراتها متفاوتة  جاذبيتها متفاوتة ، كتلها متفاوتة ، أبعادها متفاوتة ، ومع ذلك هناك استقرار عام ؛ التوازن الحركي ، الحركة المتوازنة ، هي استقرار ، دليل علم الله عز وجل :
 
﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ* وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾
 
السماء من آيات الله الدالة على عظمته :
 
أليست السماء آية ؟ انظر إلى السماء وهي زرقاء اللون ، صافية في النهار  متلألئة في الليل ، فمن بناها ؟
 
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
 (سورة الشمس : 1 ـ 8(
السماء أيضاً من الآيات الدالة على عظمة الله ، لو توقفت حركة النجوم ، لأصبح الكون كله كتلة واحدة ، انجذب بعضه إلى بعضه ، هناك نظام تجاذب عجيب ، لكن حركات النجوم كلها تخلق (إن صح التعبير) حركة نابذة قوة نابذة تكافئ القوى الجاذبة ، القضية في منتهى الدقة والروعة ؛ أن القوى الجاذبة تعادلها قوى نابذة ، فالمحصلة استقرار .
 
الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ : المسجور إما :
 
1 ـ الممتلئ :
﴿وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾
كيف أن السماء زرقاء اللون ، البحر أزرق اللون ، البحر المسجور ، من معاني المسجور الممتلئ .
2 ـ أو المشتعل :
من معاني المسجور المشتعل ، البحر الآن ليس مشتعلاً ، بل هو الآن ممتلئ ، حسنًا فكم متراً مكعباً من المياه في البحر ؟ وإذا كان أربعةُ أخماس الأرض بحراً ، القارات الخمس ، آسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا والقطبان الشمالي والجنوبي ، إذا كانت هذه القارات الخمس كلها لا تشكل عشرين بالمئة من مساحة سطح الأرض وثمانون بالمئة ، أو تسعة وسبعون بالمئة ، هي بحار ومحيطات ، وأعمق نقطة 12 كيلو مترًا ، 43 ألف قدم تقريباً  ، تقع في المحيط الهادي في خليج مريانا ، أكرِّر كم متراً مكعباً ماءً في البحر ؟ البحر المسجور الآن يعني الممتلئ ، وسيكون البحر المسجور يومًا مشتعلاً ، أما الشيء العجيب أن هذا الماء الذي تُطفأ به النيران ، مؤلف من أوكسجين وهيدروجين ، والهيدروجين غاز مشتعل ، والأوكسجين غاز يعين على الاشتعال ، يعني مؤلف من عنصرين غازيين الأول شديد الاشتعال والثاني يعين على الاشتعال ، يشكلان ماءً تطفأ به النيران .
 
البحار يوم القيامة تصبح لهيباً لا ينطفىء :
 
الله عز وجل قد أشار إلى يوم القيامة أنّ تعديلاً طفيفاً تصبح معه البحار كلها لهيباً لا ينطفئ ، ونحن إذا احترق بئر نفط فقد تمضي خمسون يوماً أو مئة يوم مثلاً وهو مشتعل ، وقد تتعاون دول من أقصى الدنيا ، مع خبرات عالية جداً ، مع تكنولوجيا تفوق حد الخيال ، لإطفاء البئر بعد شهر أو شهرين مثلاً ، فكيف لو اشتعلت البحار :
﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾
إما أنه الممتلئ  وإما أنه المشتعل .
 
البحر آية من آيات الله الدالة على عظمته :
 
ولا زلنا في الحديث عن القَسم الذي تصدَّر السورة .
 
﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ *وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾
 
البحر آية من آيات الله الدالة على عظمته ، الكائنات البحرية لا تقل عن مليون نوع ، أجل مليون نوع أو نحوها تعداد الكائنات البحرية ، تنوع الأسماك عجيب جداً ، تبدأ من سمك صغير ، سمك زينة ، إلى حيتان عملاقة ، وزن الحوت 150طناً ، 50 طناً لحماً ، و50 طناً شحماً ، 90 برميلاً زيت كبدِ الحوت ، أرقام الحيتان وأحجامها ، وأشكالها ، وأنواعها ، لا يعلمها إلا الله ، وهي حيوانات تتنفس الهواء ، ولولا الهواء لتكاثرت وأهلكت مَن في البحر ، لكنها عندما تتنفس تطفو فيصطادها الإنسان .
أنثى الحوت تُرضع وليدها ثلاثمئة كيلو ، ثلاثمئة كيلو في الرضعة الواحدة ، ثلاث راضعات تعادل طناً حليباً ، إذا جاع الحوت وأراد أن يأكل يفتح فمه ويسير فيلتقم أربعة أطنان من الأسماك ، يعني شطيرة قبل الطعام ، أحياناً الحوت يجر سفينة ، فقد جرّ مرة سفينةً  48 ساعة بينما كانت محركاتها تعمل بعكس اتجاه الحوت ، من حيوان عملاق إلى أسماك زينة رائعة جداً ، بعضها شفاف ، بعضها فسفوري ، وفي البحر مخلوقات لا يعلمها إلا الله ، القنديل نوع من كائنات البحر الحية ، المرجان  الأصداف ، المحار ، اللؤلؤ ، هذا اللؤلؤ ، هو المحار : حيوان إذا شعر أن في داخله جسماً غريباَ ولو أنها ذرة رمل ، أفرز عليها مادة كلسية فسفورية ، إلى أن تصبح لؤلؤة ، اللؤلؤ وسيلة من وسائل دفاع هذا الحيوان عن نفسه ، فاللؤلؤ وُجِد من أجل الإنسان ، إذًا فالكائنات البحرية شيء لا يوصف ، وقد يعجز الإنسان عن حصرها .
 
محاسبة الله للإنسان يوم القيامة :
 
قرأت مقالة عنها يوماً فإذا هي تزيد عن مليون نوع ، هذا ﴿البحر المسجور﴾ ، ﴿والسقف المرفوع ﴾ حدِّث ولا حرج ، جاء الجواب :       
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
كان النبي عليه الصلاةوالسلام يقرأ هذه السورة في الصلاة ، وقد صلى عمر بن الخطاب خلف النبي أعداداً من الصلوات لا يعلمها إلا الله ، واستمع لهذه السورة ، لكنه كان يتجول في المدينة ، فسمع أحد الصحابة يقرؤها في الصلاة ، نزل من على دابته وأسند ظهره للحائط واستمع إليها وهو يبكي ، إذ كانت نفسه حينئذ منفتحة ، وقلبه مشرقًا :
 
﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ *وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾
 
جواب القسم :
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
 
  الإنسان مسؤول عن كل عمل يقوم به :
 
أفتعتقد بعد كل ذلك أنّ هذا الذي خلق الكون لن يحاسبك ؟ .
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾
 (سورة القيامة : 36 )
أفتظن أنّ هذا الذي خلق الكون لن يسألك أبداً ؟
 
﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾
 (سورة البلد : 6 ـ 8(
أفيعتقد الإنسان أنّ الذي خلق العينين لا يبصر ؟
 
﴿وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾
 (سورة البلد : 9 ـ 16(
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
 
فليس معقولاً أنّ الله تعالى خلق الإنسانَ سدًى ولن يحاسبه ، جامعة تكلف ألف مليون ، وفيها حدائق غناء ، وفيها أطباء بمعدل كل خمسة طلاب لهم دكتور ، مخابر ، قاعات تدريس  مكتبات ، ملاعب ، أفلا يكون امتحان آخر السنة ؟ يأتي الطلاب ويدرسون ويخرجون ، وليس هناك امتحان :
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
 
 على الإنسان أن يحاسب نفسه حساباً عسيراً قبل لقاء ربه : 
 
الإنسان مسؤول ، الذي خلق الكون سيسأله ، وسيحاسبه ، عن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيمَ أنفقه ؟ وعن علمه ماذا عمل به ؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه ؟ وعن عمره فيم أفناه ؟
(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ))
[أخرجه الترمذيعن أبي بزرة الأسلمي ]
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
 
يعني هناك مسؤولية .
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
)سورةالحجر : 92 ـ 93(
إخواننا الكرام ؛ أحيانًا نقرأ الآيات ولا نعيشها ، لما ربنا عز وجل يقول :
 
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
)سورة الزلزلة : 7 ـ 8(
      هذا كلام مَن ؟ كلام خالقنا ، كلام رب العالمين :
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
 
)سورة الزلزلة : 7 ـ 8(
 
العاجز من يتعامل مع الله بالتمنيات : 
 
يجب أن نحاسب أنفسنا حساباً عسيراً ، حتى يكون حسابنا يوم القيامة يسيراً  انظر إلى قول النبي :
        (( الكيس (يعني العاقل) من دان نفسه (ضبط ، ضبط بيته ، ضبط عمله ضبط دخله ، ضبط إنفاقه ، ضبط جوارحه) من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ))
[أخرجه أبو داودعن عوف بن مالك]
هذا عاجز ، أحمق ، هذا الذي يتعامل مع الله بالتمنيات ، والتمنيات بضائع الحمقى .
 
 نفي الظلم عن الله عز وجل :
 
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾
 (سورة الإسراء : 19(
لم يقل سبحانه : وسعى لها فقط ، لو قال : وسعى لها وانتهت الآية ، لكان أيُّ سعي مقبولاً ، قال :
﴿وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾
 (سورة الإسراء : 19(
لها سعياً خالصاً ، لا يقبل دونه سعيٌ :
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
 
 
خالقنا ، ربنا ، الذي بيده كل شيء ، يقول هذا الكون يدل على إلهٍ بيده كل شيء ، لم يخلقنا سدى ، لم يخلقنا عبثاً ، سيحاسبنا ، وسيسألنا عن كل شيء ، ولن نظلم عنده ، لا فتيلاً ، ولا نقيراً ، ولا قطميراً .
﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾
 (سورة غافر : 17(
 
 
  الإنسان يوم القيامة يأتي ربه فرداً :
 
هذه قواعد الدين الكبرى :
 
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ* مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾
بالأرض يصدر حكم قضائي لا ينفَّذ أحياناً ، يكون المحكوم قوياً ، فأحياناً هناك من يدافع عنك ، هناك من يخلصك ، هناك من يشفع لك ، هناك من يجمد هذا الحكم ، هناك من يطوي هذه الضريبة ، هذا في الدنيا . أما عند الله عز وجل :
 
                                   ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ* مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾
 
يعني تأتي ربَّك يوم القيامة فرداً ، في الحياة الدنيا تجمعات ، وجماعات  وأحزاب ، وهناك طوائف ، وملل ، ونحل ، وشعوب ، هناك تجمع أوربي ، يضمّ 12 دولة ، عملة واحدة ، وجمارك واحدة ، وهناك تجمع شرقي ، وأحلاف ، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة تأتي ربَّك فرداً ، لا أحد يخلصك ، ولا أحد يدافع عنك ، ولا أحد يمنعك من أن تأخذ نصيبك من العذاب :
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ* مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾
 
 
العمل الصالح ثمن الجنة :
 
هذا جواب القسم يا أيّها الإخوة ، الكون خلق بديع وعظيم ، وهذه العظمة ؛ هل تعني أن الإنسان خلق سدى ؟ الإنسان بصورة عامة ينضج في الأربعين ، ثم يموت في الستين وسطياً ، فبين نضجه وبين موته ثلث حياته فقط .
فلولا الآخرة لكانت الحياة مدتها غير معقولة ، لولا أن الله سبحانه وتعالى خلقنا لجنَّة عرضها السماوات والأرض ، ونحن في دار إعداد ، في داٍر دنيا هي إعدٌاد لداٍر عليا ، لولا هذه الغاية لم يكن للحياة  معنى إطلاقاً ، ولذلك فالإنسان من دون دين في ضائع ، هناك عنده ألف سؤال وسؤال بلا جواب ، هذا يسبب اللامبالاة ، سؤال لا جواب له ، وسؤال لا جواب له ، وسؤال لا جواب له ، يجعل الإنسان في ضياع ، وفي تيه ، ثم ينتقل هذا إلى وضع لا مبالاة ، إذ ليس عنده جواب ، لكن ربنا عز وجل بيّن أنّ هذه حياة إعدادية لحياة أبدية ، والعمل الصالح هو ثمن الجنة ، قال سبحانه :
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
 (سورة النحل : 32(
 
نظام الدنيا نظام عمل ونظام الآخرة نظام إكرام :
 
نظام الحياة الدنيا نظام كدح ، لكن نظام الحياة الآخرة نظام إكرام .
                                             ﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ﴾
)سورة الفرقان : 16(
هنا :
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾
)سورة الانشقاق : 6(
في الدنيا :
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
)سورة النجم : 39 (
أما في الآخرة :
﴿فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ﴾
 (سورة الصافات : 42(
أيُّ خاطر يراود مخيلتك ترَ ترجمته أمامك ، هذا هو منتهى الإكرام .
 
 
 النية خلف أي عمل يقوم به الإنسان : 
 
لذلك :
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
يعني أنّ الذي خلق الكون لن يدع الخلق سدى  ولم يخلقهم عبثاً ، سيحاسبهم على أعمالهم كلها ، صغيرها وكبيرها ، جليلها وحقيرها ، ظاهرها وباطنها ، علانيتها وإسرارها ، كل شيء له حساب دقيق ، وكأن أعمال الإنسان يوم القيامة تعرض عليه عرضاً ، وبعد ؛ فإذا كان الإنسان الآن مراقباً ثم شاهد حركاته وسكناته مصورةً في فيلم ؛ وقيل له : لماذا ذهبت إلى هذا المكان ؟ ولماذا أخذت من فلان ؟ و لماذا أعطيت فلانًا ؟ يُصعق ، أما أنت يوم القيامة ، وكلنا جميعاً سوف تعرض علينا أعمالنا واحداً واحداً ، العمل وخلفيته نيته ، أنت أردت كذا ، قاتلت ليقال عنك شجاع ، وقد قيل فخذوه إلى النار ، فهذا إذًا معنى ، جواب القسم :
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾
 
يعني هذا الكون مخلوق من أجل أن تعرف الله  وهذا الكتاب من أجل أن تقرأه ، وأن تفهمه ، وأن تعمل به ، وهذه الشهوات من أجل أن تضبطها ، وهذه الحرية من أجل أن تثمن بها عملك ، وهذا الشرع من أجل أن تعيشه ، وهذا الكون من أجل أن تفكر فيه ، وهذا العقل من أجل أن تُعمله ، وتلك الفطرة من أجل أن تحافظ عليها .
 
 
 عذاب الله يكون عند :  
                                   
1 ـ اضطراب السماوات والأرض :
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾
متى هذا العذاب ؟ قال :
﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً﴾
تنظر إلى السماء فتجدها وديعة ، ليلُ الصيف مقمر ، وبعض لياليه غير مقمرة ، تتلألأ النجوم ، وتتألق ، لكن ما قولك لو رأيت النجوم تتهاوى  ويصطدم بعضها ببعض ، وأصوات لا تحتمل ، وصوت الرعد يصم الآذان ، وصواعق مخيفة جداً ، إنّه يوم القيامة :
﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً﴾
 
اضطراب السماوات والأرض ، كواكب تصطدم ، كواكب تتحطم ، حركات عشوائية ، موراً يعني اضطراباً .
2 ـ سير الجبال :
﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً﴾
الجبال تسير ، جبل بأكمله ، يجري وكأنه ريشة في مهب الريح .
 
 
 الدنيا دار عمل وكد والآخرة دار جزاء :
 
﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
نحن في الدنيا في بحبوحة ، كالطلاب في العام الدراسي ، كلهم يرتدي ثياباً خاصة ، ويأتي إلى المدرسة ، لكن بعضهم يدرس ، وبعضهم لا يدرس ، بعضهم يمضي وقته من غير جدوى ، بعضهم ينتبه ، بعضهم لا ينتبه، بعضهم يكتب ، بعضهم لا يكتب ، لكن عند الامتحان ويلٌ للكسالى ، ونحن الآن في بحبوحة ، الناس كلهم يأكلون ويشربون ، وإن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، حالُ المؤمن الآن لا يبدو صارخاً ، واحد من هؤلاء الناس ، يسكنُ بيتًا مستوراً ، لكنّ حوله أناساً متفلتين ، وربما كان حوله أناس عصاة ، وأناس جاحدون ، وأناس يقترفون الآثام ويأكلون المال الحرام ، ويتحدون السماء وخالقها ، ومع ذلك فالله يرزقهم .
وعزتي وجلالي ؛ عبدي خلقت لك السماوات والأرض ، و لم أعيَ بخلقهن أفيعنيني رغيف أسوقه لك كل حين ، لي عليك فريضة ، ولك عليّ رزق فإذا خالفتني في فريضتي ، لم أخالفك في رزقك ، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا ، تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذموماً، أنت تريد ، وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد .
 
 
 النجاة الحقيقية أن ينجو الإنسان من عذاب الله : 
 
لذلك :
﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
البطولة أن تنجو من هذا اليوم ، قد يتهرّب إنسان من ضريبة ، ويحسب نفسه بطلاً ، وينجو من مشكلة ، ينجو من مؤاخذة ، ينجو من شيء مخيف ، لكنّ النجاة الحقيقية أن تنجو من عذاب الله ، والغنى الحقيقي بعد العرض على الله ، الغنى والفقر بعد العرض على الله ، الدنيا لا قيمة لها ، عَرض زائل يأكل منها البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملِك عادل .
 
النار عاقبة المتفلت من منهج الله عز وجل :
 
﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
هذا الذي أمضى حياته في غفلة عن الله ، وفي تفلت من منهج الله ، وفي إساءة للخلق ، وفي ضياع ، وفي انغماس في الملذات ، هذا الإنسان تماماً كإنسان يركب مركبة في منحدر شديد ، بسرعة عالية ، والهواء العليل يلطف جو المركبة ، و في نهاية هذا الطريق منعطف حاد ، وليس معه مكابح وهو يضحك ، ولا يعلم ماذا ينتظره بعد دقائق ، بعد دقائق سيكون جثة هامدة ، يقول الويل لنا ، لقد متنا ، المكبح معطّل ، والمنعطف حاد والمنحدر شديد ، وهو منطلق ويغني ، ويضحك ، أما الذي يعلم أن هذه المركبة بلا مكبح يعرف نتيجته الحتمية .
﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ*الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾
خوضُ مخاضةٍ ، هذا يعني تصوراتهم عن الكون سخيفةٌ جداً ، أحد الشعراء الجاهليين قال :
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي    فدعني أبادرها بما ملكت يدي
*   *   *
يعني دعهُ ينطلق معَ فلسفته للحياة بأن يستمتع بشهواتها إلى أقصى حد .
 
هموم أهل الدنيا شهوانية مادية :
 
لو جلست مع أهل الدنيا ، مع أهل الغفلة ، مع أهل الجهل لوجدت في أفكارهم العجب العجاب ، تصور سخيف للحياة ، تصور سخيف للكون ، تصور سخيف للإنسان ، تصورٌ سخيف للجزاء والعقاب ، واللهُ عز وجل سمى هذه التصورات خوضاً ، مخاضة ، وَحَل يعني : كلام لطيف جداً ، معبر ، أفكاره ، معتقداته ، تصوراته ، مبادئه ، قيمه كالوَحَل ، مبدؤه المصلحة ، يتلون ألف لون ولون بيوم واحد ، من أجل مصلحته ، ليس عنده شيء مقدس أبداً ، يقدِّس ذاته فقط ، يقدِّس المال ويعبده من دون الله ، مستعد أن يقول أي شيء من أجل أن يبقى في مكانه وفي عمله ، وفي دخله الكبير ، هذا خوض ، ليس عنده مبدأ ، ولا قيمة ثابتة ، لا يعادي ولا يسالم ، يسالم لنفسه ، ويعادي لنفسه فقط ، هذا الله عز وجل سماه خوضًا ، مخاضة ، وحَلاً ، تصوراته كالوحل  الآن اهتماماته كالوحل ، ما عنده همّ مقدس ، كل همومه أرضية ، هُّمه ملذاتُه ، همه طعامه وشرابه ، بيته ، همُّه رفاهه واستمتاعه بالحياة ، همه استعلاؤه على الناس ، همه افتخاره بما عنده ، همه أن يكون مسيطرًا مثلاً ، وأن يكون مستمتعًا ، همومه كلها صغيرة ، هموم مادية ، هموم شهوانية ، هموم مصلحية .
 
هموم أهل الآخرة مقدسة :
 
أما المؤمن الذي عرف الله عز وجل همومه مقدسة ، يسعى لهداية الناس ، يسعى لنشر الحق ، يسعى لخدمة الخلق يسعى لمرضاة الله عز وجل ، يسعى لجنة عرضها السماوات والأرض يسعى لحياة أبدية ، يسعى ليكون :
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
 (سورة القمر : 55)
همومه مقدسة ، لأن معتقداته مقدسة ، عالية ، لو عرضت أفكار غير الإسلاميين على محك البحث لوجدت فيهم الشيء الذي لا يصدق فالله عز وجل سمى معتقدات هؤلاء ، أو تصورات هؤلاء ، أو مبادئ هؤلاء سماها خوضاً ، وهم يلعبون فيها كالصغار ، وسمى اهتماماتهم  التي تشغلهم ، والتي تنصب عليها همهم ، وأن كل ما يعنيهم ، سماها خوضاً أيضاً .
 
اهتمامات ومعتقدات الكافر ما هي إلا خوض في وحل : 
 
رجل جلس إلى شخص في بلد غربي ، حدثه عن الإسلام ، بعد حديث ممتع ، دقيق ، عميق ، مدعم بالأدلة والشواهد ، الحسية   والعقلية ، والواقعية ، والفطرية ، أخرج هذا الشخص الآخر من جيبه دولارًا و قال : هذا ربي أعبده من دون ربك .
ولقد التقيت مرة مع شخص مندوب شركة ؛ قال لي بالحرف الواحد بعد أنْ حدثته عن الله قليلاً ، قال : هذا الموضوع لا يعنيني ، ولا أهتم به ، ولا ألتفت إليه ، يعنيني بيت ، وامرأة ، وسيارة فقط ، هذا خوض ، في الوحل يعيشون ، وفي الحمأة غارقون  .
فالكافر اهتماماته سخيفة ، ومعتقداته سخيفة ، الله سمى هذه الاعتقادات والاهتمامات وأمثالها سماها خوضًا في وحل :
﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ*الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾
 
 
الفرق بين اللهو واللعب :
 
اللعب عمل لا جدوى منه أولاً ، لعب ، ثم لهو ، واللهو أخطر ، لأنّ اللهو أن تشتغل بالخسيس عن النفيس ، أن تشتغل بالأصداف عن اللآلئ ، أن تشتغل بالقشور عن اللباب ، هذا هو اللهو ، أما اللعب عمل بلا جدوى ، ليس له أي أثر مستقبلي ، يعني شخص لعب النرد حتى الساعة السابعة صباحاً فماذا قدم للأمة ؟ لو قرأ كتاباً لاستفاد منه وأفاد ، لو نام لأراح واستراح ، لو أكل لَتَقَوّى على طاعة الله ، لو جلس إلى أخ يحدثه عن الله عز وجل لأفاده ، لو وجه أولاده لأفادهم  فاللعب عمل بلا طائل ، وكلما ابتعدت عنه رأيته حقيراً ، ألا تنظر إلى طفل صغير يأخذ بعلبة يتوهمها سيارة ويحركها على الطاولة  ويعطي صوتاً معها ، هذا لو صورته صورةً متحركة ملونة وأرأيته إياها بعد أن يصير طبيباً ، أو مهندساً ، ألا يستصغر اهتمامه ، وسخافة تعلقه بهذه العلبة ؟ اللعب من شأنه إذا ابتعدت عنه رأيته صغيراً تافهاً ، اللعب يتناقص لا يتنامى ، اللعب ليس له أي أثر مستقبلي .
 
دفع الكافر بإهانة يوم القيامة لمعتقداته السخيفة :
 
الله عز وجل بكلام موجز بليغ سمى معتقدات الكفار ، واهتماماتهم خوضاً ، وحركتهم في هذا المجال أنهم يلعبون ، حركة عشوائية بلا هدف ، العمل الذي لا جدوى منه  العمل الذي لا طائل منه ، العمل الذي ليس له أثر مستقبلي ، هذا هو اللعب ، أمّا الويل ؛ فهو الهلاك .
﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ *الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً﴾
دَعَّه ؛ أي دفعه على ظهره ، بقسوة ، وإهانة ﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ﴾ طبعاً لأنهم كانوا في خوض ، وكانوا يلعبون ، واعتقدوا اعتقادات سخيفة ، واهتموا بأشياء أسخف منها ، هذه السخافة في معتقداتهم ، وفي نشاطاتهم في الدنيا يناسبها أن يهانوا يوم القيامة ، وشتّان بينهم وبين المؤمنين في ذلك اليوم ، يوم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون .
 
المؤمنون يذهبون إلى الرحمن والمجرمون يُحشرون إلى جهنم :
 
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾
 
 (سورة الزمر : 73(
المؤمنون يذهبون إلى الرحمن وفداً ، أما المجرمون فيُحشرون إلى جهنم وردا ، إذا كان الشخصٌ متهماً بجريمة قتل مثلاً ، فإذا طُرِق بابُه وأُلقي القبضُ عليه ، فمن باب البيت إلى السيارة يرحبون به دعًّا وركلاً ويتقاذفونه فيما بينهم على طريقتهم الخاصة ، فهو إنسان مجرم طبعاً ، ويساق ليحاكم ، وكذلك الكافر لأنه كان تائهًا  ، وكان شاردًا ، وكان مؤذيًا ، وكان شهوانيًا ، وكان منحط الأخلاق ، فإنه يلقى المعاملة نفسها ، ومن ثَم جهنم وبئس المصير .
﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً *هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾
بربكم لنأخذ مئة شخص ، عيِّنة عشوائية ، كم واحدًا منهم يصدِّق بجهنم ؟ ويتقيها فعلاً ؟ فهي ليست داخلة في حسابات الناس بتاتاً ، ولو كانوا مسلمين ، يصلون لكن يأكلون المال الحرام ، يأخذون الأموال الحرام بالملايين ولا يعبئون ، يحسب أحدهم نفسه شاطراً ويبادر إلى توكيل محامٍ ، ثم إذا نجحت قضيتُه يحسب أن المال صار في حوزته حلالاً ، أما المؤمن فإنه يخشى درهماً حراماً أو ليرة أو أدنى من ذلك .
 
تحذير الله عز وجل لعباده من نار جهنم :
 
الإمام أبو حنيفة رَضِي اللَّه عَنْه كان واقفاً في ظل بيت مرهونٍ عنده ، فتحول إلى الشمس ، لماذا ؟ فللبيت ظل ، قال لمن معه : هذا البيت مرهون عندي ، وأنا أكره أن أنتفع بظله ، هذه جهنم من الذي أدخلها في حسابه اليومي ؟ من ترك مبلغاً من المال خوفاً من النار ؟ من الذي ترك نظرة إلى امرأة خوفاً من النار ؟ من الذي ترك سهرة خوفاً من النار ؟ ما أُدخلت في حسابات الناس ، بشكل واقعي ، بشكل جاد ، الإله يقول لك : هناك نار جهنم لا تحتمل :
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾
أنا أريد أن أتوقف قليلاً ، أرجو من الله عز وجل أنْ أحسن البيان والإيضاح ، هذا كلام خالق الكون ، إنه كلام الله سبحانه .
أحيانا يصدر تصريح ، من وزير الاقتصاد ، يسمح بموجبه باستيراد سيارات فيهبط  سعر السيارات خمسمئة ألف ، بمجرد أربع كلمات في الجريدة مثلاً .
إلهنا وربنا ، وخالقنا ، وهذا كلامه ، ويحذرنا من النار ، ولا نتقيها‍‍؟ واللهِ هناك أناس حمقى ، وحمقهم شديد ، ولكن إنما يتذكر أولو الألباب .
 
عدم إيمان الكافر بالوعيد الإلهي :
 
واللهِ إني لأخشى نار جهنم :
 
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾
تسلَّلْ ساعة أو يوماً إلى حياة الناس ، ادخل إلى قصر العدل ، بأي فرع من فروع القضاء آلاف الدعاوى وأكثرها افتراء ، أكثرها دعاوى كيدية ، هناك أكل للمال الحرام، هكذا بصراحة ، أين الخوف من الله ؟ أين هذا المؤمن الوقاف عند كتاب الله ؟ أين هذا المؤمن الذي يخشى الله ؟ الذي يخشى  أن يأكل مالاً حراماً ، أن يعتدي على أعراض الناس ، أن يعتدي على سمعتهم :
 
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾
 
بصراحة أيها الإخوة : التكذيبُ نوعان ، التكذيب بالقول ليس خطيراً جدًّاً ، فخطره محدود ، فقد يعني أنك تناقشه ، أما الخطر بالتكذيب العملي ، فقد لا تقول بلسانك : أنا لا أؤمن بالنار لكن الأعمال كلها تؤكد أنك لست مؤمناً بها ، فأعمالك ، مثلاً قد توحي أنك لا تهتم بطريقة كسب المال ؛ من أين تأخذه ؟ هذا يعني أنك لا تؤمن بهذا الوعيد الإلهي .
 
كلام الله وكتابه هل هو سحر أم حقيقة ؟
 
لذلك يوم القيامة يقال لهؤلاء العصاة :
 
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾
أحدُ القضاة طُرق باب بيته ، جاءه الغلام فقال : إن بالباب رجلاً أعطاني طبقاً من الرطب ، وكان القاضي معروفاً في المدينة ، بأنه يحب الرطب في بواكيرها ، قال من قدمه لك ؟ قال رجل ، قال : صفه لي ، قال : صفته كيت وكيت ، فعرفه أنه أحد المتخاصمين عنده ، قال له أعطه الطبق وردّه إليه ، بعد أيام قابل الخليفة ليعتذر من منصب القضاء ، قال له : و لمَ  وأنت من القضاة النزيهين ؟ قال ولقد قُدم لي طبق رطب من أحد المتخاصمين ورددته ، وفي اليوم التالي وقد وقفا بين يدي تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم الطبق مع أني لم آخذه فكيف لو أخذته ، هكذا كان ورعهم ، لأنهم آمنوا أن هناك ناراً حامية ، وإذا عصى الإنسان ربه سيدخلها  :
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾
 
 
فهل كان الكلام سحرًا ، أم قرآناً ؟ وهذه نتائجه .
 
اتهام الكفار للنبي الكريم بأن ما أنزل إليه ما هو إلا سحر :
 
ثم إن الكفار بمنطقهم الأعوج :
﴿قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾
 (سورة الذاريات : 52(
كلامه سحر .
﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾
)سورة الشعراء : 49(
فهذا القرآن الذي وصف النار ، وأنتم في الدنيا :
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾
 
فهل كان كلامي وكتابي لكم سحراً ، أم حقيقة ؟ هذا هو المعنى المستفاد .
 
 الصبر على تحمل العقاب لا معنى له إطلاقاً :
 
﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ* اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
 
هنا سؤال دقيق يطرح نفسه : كيف سَوّى الله بين الصبر وعدمه ، مع أن الصبر مفيد وثوابه كبير ؟
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
 (سورة الزمر : 10(
ما جواب ذلك ؟ الصبر في الدنيا مفيد ، أما الصبر بعد إيقاع العقاب لا يفيد ، تصبر أو لا تصبر سيان .
يعني إذا ارتكب إنسان جريمة وحكم بالإعدام ، وصُدق الحكم  وسيق إلى المشنقة ، يُحب أن يضحك ، فليضحك ، يحب أن يبكي فليبكِ لابد من تنفيذ الحكم ، بعد صدور الحكم لا معنى للصبر ، الصبر على تحمل العقاب لا معنى له إطلاقاً :
 
﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
 
وصف الكفار لكلام الله بأنه سحر :
 
الآية دقيقة جداً :
 
﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ﴾
 
كلام الله وصفتموه يوم كنتم في الدنيا بأنه سحر ، هل كان سحراً أم حقيقة ؟
﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
وأختم قولي بما قال تعالى :
﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾
 (سورة النور : 63)
وفي الدرس القادم إن شاء الله نتابع هذا الموضوع .
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب