سورة ق 050 - الدرس (3): تفسير الأيات (30 – 45) - التفكر طريق الإنسان لمعرفة الحق و الصواب

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة ق 050 - الدرس (3): تفسير الأيات (30 – 45) - التفكر طريق الإنسان لمعرفة الحق و الصواب

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة ق

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة ق ـ الآيات: (30 - 45) - التفكر طريق الإنسان لمعرفة الحق و الصواب

19/06/2013 18:16:00

سورة ق (050)
الدرس (3)
تفسير الآية: (30ـ 45)
التفكر طريق الإنسان لمعرفة الحق و الصواب
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام : مع الدرس الثالث من سورة ( ق ) ، ومع الآية الكريمة الثلاثين .
   
 تذكير بالسابق وربط باللاحق :
 
قال تعالى :
 
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾
بعد أن وصف الله جلَّ جلاله حال أهل النار ، وكيف أن كل نفسٍ تُساق معها سائقٌ وشهيد ، والحوار الذي يجري بين الإنسان وقرينه ، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾
 ( سورة ق : آية " 28 " )
لأن اختصامكم لدي لا يجديكم .
 
صورة أهل النار يوم القيامة : 
 
يقول الله عزَّ وجل :
 
 
 
﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ *مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾
هذه صورةٌ مرعبة لحال أهل النار ، لكن الله سبحانه وتعالى يعلِّمنا كيف نُبَشِّر كما ينبغي أن نُحَذِّر ، وكيف ينبغي أن نقدِّم الصورة المشرقة كما ينبغي أن نقدِّم الصورة المرعبة ، وكيف ينبغي أن يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء ، وبين الطمع بمغفرة الله عزَّ وجل والفَرَقِ من الذنب ، لابدَّ     من التوازن .
   
  جنة الدنيا وجنة الآخرة :
 
ربنا جلَّ جلاله يقدِّم لنا صورةً أخرى ؛ صورةً للمؤمنين ، صورةً لحال أهل الإيمان يوم القيامة ..
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾
 
هي بذاتها اقتربت منهم ، كيف ؟ لا نعلم ، لكنه تكريم لهم تقترب الجنة من المتقين ، وقال بعض المفسرين : " إن كل إنسانٍ يعمل صالحاً في الدنيا كأن الجنَّة تقترب منه " ، هذه السعادة المُطْلَقَة التي وعد الله بها عباده المؤمنين ، هذه السعادة تقترب منه كلَّما استقام على أمر الله ، أتريد أن تكون في جنَّة وأنت في الدنيا ؟ استقم على أمر الله ، أتريد أن تكون في جنَّة الله يوم القيامة ؟ استقم على أمر الله .
 
الاستقامة طريق الإنسان إلى جنة الدنيا و جنة الآخرة :
 
إن الحقيقة أن الإنسان أحياناً يقترب من الشيء قرباً سببيًّاً ، فلو أن الطالب مثلاً درس الكتاب جيداً اقترب من النجاح ، ولو درس الكتاب الثاني اقترب أكثر ، لو أتقن كل المواد صار بينه وبين النجاح قاب قوسين ، هذا اقتراب سببي ، فكلَّما عملت الصالحات ، وطبَّقت منهج الله عزَّ وجل فأنت قريبٌ من الجنَّة التي وعد الله بها عباده المتقين ، وحينما يطبِّق الإنسان منهج الله في الدنيا فهو قريبٌ من جنَّة الدنيا ومن جنَّة الآخرة ، ماذا بينه وبين جنَّة الآخرة ؟ ليس بينه وبين جنَّة الآخرة إلا أن يموت فقط ..
أحد أصحاب رسول الله أمسك تمراتٍ ليأكلها وهو في المعركة ، فقال : ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التمرات ، ألقاها ، وقاتل حتى قُتِل .. فالإنسان المستقيم ليس بينه وبين جنَّة الدنيا إلا أن يستقيم ، فإذا استقام أقبل على الله عزَّ وجل ، هو في جنَّة لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾
 ( سورة الرحمن )
  
  جنة الدنيا هي القرب من الله عز وجل :
 
قال المفسِّرون : " جنَّةٌ في الدنيا ، وهي القُرب من الله " ، ليس معنى ذلك أن ترى المؤمن في بحبوحةٍ مادِّيةٍ كبيرة ، في غناءٍ فاحش ، لا ، ليس هذا هو المعنى ، جنَّة الدنيا أن تنعُم برضوان الله ، أن تشعر أن الله الذي خلق السماوات والأرض يحبك ، وهو راضٍ عنك ، وهذا الرضا وذاك الحب لا يعرفه إلا من ذاقه ، جنَّة الدنيا أن تطمئن ، جنة الدنيا أن ترضى بنصيبك من الله ، جنة الدنيا أن تشعر أن الله معك ولا يتخلَّى عنك ، جنة الدنيا أن تشعر أن الله يدافع عنك ، جنة الدنيا أن تشعر أن الله لن يكتب لك إلا الخير ، ولن تفاجأ في المستقبل إلا بمزيدٍ من الخير ..
 
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
 ( سورة طه )
﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
 ( سورة البقرة )
لا خوفٌ عليهم من المستقبل ، ولا هم يحزنون على الماضي ، هذه جنَّة الدنيا ، جنة الدنيا مبذولةٌ لكل مخلوق ، الثمن موحَّد ، أسعار موحَّدة ، الثمن واضح ، والثمن تملكه ، وهو طاعة الله عزَّ وجل ..
   
  الجنة مصير كل إنسان اتقى الله ورسوله :
 
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
 ( سورة الحجرات : آية " 13 " )
الآية تحتمل المعنيين ، تحتمل أنك إذا اتقيت الله عزَّ وجل اقتربت منك جنَّة الدنيا ، وتحتمل أنك إذا اتقيت الله في الدنيا اقتربت منك جنة الآخرة سبباً ، أي اقتربت منها من حيث الأسباب ، كما لو أن الإنسان أتقن قراءة كتابٍ مقرَّر في الامتحان فإذا أتقنه ، وأتقن الكتاب الثاني والثالث والرابع يقول لك : كأنني نجحت ، كأن النجاح لاح له بين عينيه .
على كلٍ ، إذا وجَّهنا الآية إلى الآخرة فاقتراب الجنة من المؤمنين تكريمٌ وأيّ تكريم ، وكلَّما علا مقامُ الإنسان تأتيه الأشياء ، وتُقَرَّب إليه ، وكلَّما نزل مقامه درجة يسعى إليها بنفسه ، فبين أن تسعى أنت إليها وأن تسعى هي إليك فرق كبير .
  
  تكريم الله للإنسان في الدنيا والآخرة بسبب طاعته لربه واستقامته على أوامره :
 
أحياناً يُدْعَى الإنسان إلى وليمة على نمط جديد ، تحمل الطبق ، وتذهب إلى الطعام ، وتأخذ حاجتك منه ، لكن بعض الضيوف الكِبار يأتيهم الطعام إليهم ، فإما أن تسعى إلى الشيء ، وإما أن يسعى الشيء إليك ، لعلوّ مقامك عند الله عزَّ وجل ، وتكريماً لك على طاعته واستقامتك أزلِفت الجنة إليك ، فكيف تأتي ؟ لا نعلم ، هذا مما استأثر الله بعلمه .
أما في الدنيا فكلَّما ازددت طاعةً لله اقتربت منك جنة الدنيا ، جنة القُرب ، جنة الطمأنينة ، جنة الرضا ، جنة الشعور أن الله لا يتخلَّى عنك ، أن الله يدافع عنك ، هذه الجنة التي قال النبي eفيها :
(( أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَسَعِيدٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ )) .
[الترمذي عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ]
فلعلَّ النبي eقصد أنهم في جنَّة الدنيا ، ولعلَّه قصد أنهم في جنَّة الآخرة .
 
الجنة عاقبة كل مؤمن صالح :
 
على كلٍ :
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾
( سورة الرحمن )
ومن أجمل الأدعية : " اللهمَّ اجعل نِعَمَ الآخرة متصلةً بنعم الدنيا " ، أي إن المؤمن خطَّه البياني صاعد ، والموت نقطة على هذا الخط ، كأن يخلع ثوباً ليرتدي ثوباً ، هو في سعادة ، يأتيه ملك الموت فيخلع عنه ثوب الجسد ليلبس ثوباً آخر لا يعلمه إلا الله .. " .
قَالَ اللَّهُ :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ )) .
[البخاري ومسلم عن أبي هريرة]
 
  
وعد الله للإنسان في الدنيا من خلال القرآن الكريم :
 
﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
 ( سورة التحريم )
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ﴾
الله وعدنا ، يعدُنا في الدنيا من خلال القرآن الكريم ، والنبي عليه الصلاة والسلام يعدنا من خلال سنَّته المطهَّرة .
مثلاً :
(( الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ )) .
[متفق عليه عن أبي هريرة]
هذا وعد النبي عليه الصلاة والسلام .
  
الله عز وجل لا يعجزه شيء في الدنيا ولا في الآخرة :
 
فلذلك :
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾
 ( سورة النساء )
من الذي يعدك ؟ خالق الكون ..
 
﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
 ( سورة التوبة )
شتَّان بين أن يعدك إنسان محدود القدرات ، قد يتمنى أن ينفِّذ وعده ، ولكن لا يستطيع ، قد يموت قبل أن ينفِّذ وعده ، قد يكون طلبك أكبر من طاقته ، لكن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء ..
﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾
 ( سورة يس )
((... يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ )) .
[ صحيح مسلم عن أبي ذر]
ذلك لأنَّ عطاءه كلام (كن فيكون) ، وأخذه كلام ، فمن وجد خيراً فليحمد الله .
  
  الجنة ثمن من عرف أمر ربه وطبق منهجه :
 
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ *هَذَا مَا تُوعَدُونَ﴾
لمن هذا الوعد ؟ قال الله تعالى :
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ﴾
 ( سورة القصص : آية " 61 " )
من هو المؤمن ؟ هو مخلوق عرف ربَّه ، وطبَّق أمره ، فوعده الله وعداً حسناً ، فهو موعود بالجنة ، قال عز وجل :
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
 ( سورة القصص : آية " 61 " )
هل يوازَى إنسانٌ موعودٌ بجنَّة الله بإنسانٌ آخر سوف يُحضَرُ مكبَّلاً ليلقى نتائج عمله السيئة ؟
  
  وعد الله كُلَّ أوَّابٍ حَفيظٍ بالجنة :
 
لمن هذا الوعد ؟ قال تعالى :
﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾
 الأوّاب : الذي رجع من المعاصي إلى الله :
اللغة العربية تعيننا على فهم هاتين الكلمتين ، الأوّاب : صيغة مبالغة ، أوَّاب فعَّال ، صيغتها الأصلية آيب ، آب يَؤوبُ آيبٌ ، آب بمعنى رجع ، رجع من أين ؟ وإلى أين ؟ أجمع المفسرون على أن الآيب الذي صيغة مبالغته أوَّاب هو الذي رجع عن المعاصي ، كان فـي معصيةٍ فرجع من هذا الطريق ، رجع من المعاصي إلى الله ، هذا هو الأوَّاب ، رجع من المعصية إلى الله عزَّ وجل ، هو آيب وصيغة مبالغته أوَّاب ، هذا الوعد العظيم .
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ﴾
لذلك :
(( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )) .
[الترمذي عن أنس]
التوّابون : أي : كثيرو التوبة ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام : تائب ، بل قال : توَّاب ، وهو كثير التوبة .
 الحفيظ : من حفظ أمر الله و اجتنب نواهيه :
﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ﴾
معنى هذا أن الإنسان ما دام فيه بقيةٌ من حياة فعليه أن يؤوب إلى الله عزَّ وجل ، وكلَّما شعر أنه في موقع غير صحيح وفي سلوكٍ غير صحيح ، كلَّما شعر أنه متلبِّسٌ بمعصيةٍ أو بمخالفة ، أو بشبهة أو بتقصير فعليه أن يؤوب إلى الله عزَّ وجل ، وأن يرجع عن معصيته إلى الله جلَّ جلاله .
﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
 
الكلمة الثانية أكثر إيجابيةً من الأولى .
أيضاً حفيظ صيغة مبالغة ، حافظ اسم فاعل ، أما حفيظ أي كثير الحفظ ، يحفظ ماذا ؟
  
 معاني حفظ الإنسان :
 
 1 ـ يحفظ أمر الله :
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾
 ( سورة المؤمنون )
2 ـ يحفظ الأمانة التي بين يديه :
المريض عند الطبيب أمانة ، والموكِّل عند المحامي أمانة لا ينبغي أن يغشَّه ، ولا أن يحدِّثه بحديثٍ الموكِّل هو له به مصدِّق ، والموَكَّل هو له به كاذب ، خان الأمانة ، المريض عند الطبيب لا ينبغي أن يحدِّثه بحديث هو له مصدِّق ، والمتكلِّم ليس له بصادق ، المريض أمانة ، والموكِّل أمانة ، والذي يشتري بضاعةً من بائع هو أمانة ، هو كلّه أمانة عندك ، يسألك بدينك أن تنصحه ، وأن تعطيه بضاعةً جيدة ، وأن يكون سعرها معتدلاً ، أمانة ، وابنك أمانةٌ أودعه الله عندك ، كيف ربّيته ؟ هل علَّمته ؟ هل وجَّهته ؟ هل ضبطت سلوكه ؟ هل درَّبته على طاعة الله عزَّ وجل ؟ هل لقَّنته الحقّ ؟ هل أعنته على نفسه ؟ هل أعنته على بِرِّك بالعدل بين الأولاد ؟ ابنك أمانة ، زوجتك أمانة أوكل الله إليك مصيرها ، أنت رُبَّان السفينة ، وأنت القيِّم على هذا البيت ، وأنت صاحب القرار ..
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾
 ( سورة النساء : آية " 34 " )
فالزوجة أمانة ، والولد أمانة ، وبحرفتك كل من تتعامل معهم أمانةٌ في عنقك .
 
الجنَّة أُعِدَّت  لكل أوّاب شديد العودة إلى الله :
   
لذلك :
                                               ﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾
شديد الحفظ أولاً لعباداته ، لصلواته ، شديد الحفظ لأوامر الله عزَّ وجل ، شديد الحفظ لما استودعه الله ..
هذه الجنَّة التي عرضها السماوات والأرض أُعِدَّت للمتقين ، أعدَّت لكل أوابٍ حفيظ ، شديد العودة إلى الله .
بالمناسبة ، صيغة المبالغة تعني الكَمَّ والنَوع ،﴿ أوَّاب ﴾ مهما كانت المعصية كبيرةً فهو يعود منها إلى الله ، أو مهما تكن المعاصي كثيرةً يعُد منها جميعِها إلى الله ، هذا هو﴿الأوَّاب ﴾  .
و ( الحفيظ ) يحفظ أوامر الله ويطبِّقها ، يحفظ الأمانات التي استودعت إليه ، يقوم بعمله خير قيام ، يقوم برعاية من استرعاهم الله به ، هذا هو الحفيظ .
 
 
  عدم ارتقاء المؤمن عند ربه إلا إذا شكّل حياته وفق ما يرضي الله :
 
﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾
لو أتينا بخمسة مليارات إنسان ، وهم سكَّان الأرض ، وأطلعناهم على خطرٍ رأوه بأعينهم لاتّقوا الخطر ، ولا فضل لك إذا رأيت بعينيك الخطر ، وابتعدت عنه ، ليست هذه هي العبادة ، العبادة أن تُدرِك الخطر بعقلك ، الخطر ليس أمامك ، لا تراه رأي العين ، بل هو غائبٌ عنك ، فهذا الذي يؤمن بالله يتقي الله بالغيب ، أي أن عقله دلَّه على أن لهذا الكون خالقاً ، وأن كل البشر عباده ، وأنك إذا أحسنت إليهم رضي عنك ، وإن أسأت إليهم عاقبك عقاباً شديداً في الدنيا والآخرة ، فهذا الذي يرى الخطر بعينه فيتقيه لا يسمَّى عابداً لله لأنّ أيّ مخلوقٍ على الإطلاق إن رأى الخطر حادَ عنه ، لكن المؤمن قال تعالى :
 
﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾
 ( سورة البقرة )
 
﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾
أي أنه آمن بالله ، ولم يره بعينه ، آمن بوحدانيته ، وآمن بكماله ، وآمن بوجوده ، وآمن بكتابه ، وآمن برسله ، فشكَّل كل حياته وفق ما يرضي الله ، هذا الذي يرقى عند الله ، آمن بالغيب ، احترم عقله ، ذلك العقل ، تلك الأداة الثمينة التي أكرمك الله بها كي تعرفه بها   انتفعت به ، لذلك هذا الأوَّاب الحفيظ .
 
   العاقل من آمن بالغيب واحترم عقله :
 
أما الذي يرى الزلزال بعينه ، أو يرى المرض بعينه ، الآن كل إنسان لا سمح الله ولا قدَّر إذا أصابه مرض عُضال بسبب الدخان يُقلِع عنه ، ولكن ليس له فضل ، لأنه متى أقلع عنه ؟ بعد أن أُبلِغ أن هناك مرضاً عضالاً قد حلَّ به ، لكن العاقل هو الذي يدع الدخان قبل أن يحلَّ به المرضٌ العضال ، هذا العاقل ، هذا خشي عواقبه بالغيب ، بالفكر أدرك أن هذه العادة تسبب مشكلات كثيرة في صحَّته فتركها .
وأريد من هذه الفكرة أنك إذا رأيت الخطر بأُمِّ عينك ، واتقيته فلا فضل لك في ذلك ، ولا أجر لك في ذلك ، ولا ترقى عند الله بهذا الترك ، لأن هذا جزءٌ من طبيعتك البهيمية ، فالدابَّة مثلاً إن رأت خطراً ابتعدت عنه ، أما كجزء من طبيعتك الإنسانية فقد أودع الله فيك العقل ، فإذا أدركت به الخطر المتوقَّع ، وابتعدت عن هذا الخطر الآن ترقى ، الآن أنت إنسان ، لذلك العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه .
أحياناً يريد إنسان أن يسافر ، فيذهب ليقطع التذكرة ، يفكِّر ، السفر صباحي إلى حلب ، الشمس من على اليمين ، الشمس من جهة الشرق ، إذاً يطلب في الصيف المقعد في جهة اليسار، وفي الشتاء يطلبه في جهة اليمين ، فكَّر ، كل إنسان يفكِّر يكون أكَّد فيه الناحية الإنسانية الراقية ، وكل إنسان يعطِّل فكره يكون هبط إلى مستوى البهيمة ، البهيم يتفاعل مع الأحداث حين وقوعها ، أما الإنسان فينبغي أن يتفاعل معها قبل أن تقع يُدرِكها ، لذلك يقولون : من صفات الأمم الراقية أنها تعيش المستقبل ، والأقل رقيًّاً تعيش الحاضر ، والأمم المتخلِّفة تعيش الماضي فقط .
ألهى بني تغلبٍ عن كل مكرمةٍ       قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومُ
*   *   *
 
 بِقَلْبٍ مُنِيبٍ : آيةٌ لها عدة معان :
 
لذلك :
﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾
1 ـ قلب مخلص لله :
 
اختلف المفسِّرون في معنى ﴿ منيب﴾ ، فبعضهم قال : " جاء بقلبٍ مخلص لله عزَّ وجل .
يا معاذ ، ((  أخلِص دينك يكفك القليل من العمل )) .
[الجامع الصغير عن معاذ بسند ضعيف]
إن درهماً أُنفِق في إخلاص خيرٌ من مئة ألف درهمٍ أُنفقَ في رياء .. فالإخلاص الإخلاص ، لأن الإخلاص ينفع معه قليل العمل و كثيره ، والرياء والنفاق لا ينفع معهما لا قليل العمل ولا كثيره .
قال بعض المفسرين :
﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾
 
أي مخلص .
2 ـ قلب سليم :
وجاء بقلبٍ منيب أي سليم ..
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
 ( سورة الشعراء )
والقلب السليم هو وحده الذي ينفعك يوم القيامة ، لأن الأمر كلَّه بيدِ الله ، وفي الأثر :
" عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهَّرت منظري ساعة ؟! " .
القلب بيت الرب ، أفلا طهَّرت منظري ساعة ؟ .
هنيئاً لمن اطلع الله على قلبه فرآه سليماً ، ليس فيه غلٌّ لأحد ، ولا حقدٌ على أحد ، ولا احتيالٌ على أحد ..
 
﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
( سورة الشعراء )
(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )) .
[ البخاري عن عمر بن الخطاب ]
هذا الحديث متواتر ، ويُعَدُّ أصلاً في أن الأعمال كلها تقيَّم عند الله حصراً بالنيَّات الطيِّبة ..
  
 روعة الجنة والحالة النفسية التي ينعم بها أهلها :
 
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾
اللطيف في هذه الآية أن الجنَّة يدخلها المؤمنون في سلام ، أحياناً في الدنيا تدخل بيتاً رائعاً ، لكنَّه قطعةٌ من الجحيم ، فيه أمراض ، فيه مشكلات ، فيه خصومات ، فهنـا أشار الله عزَّ وجل إلى روعة الجنَّة ، وروعة الحالة النفسية التي يَنْعُمُ بها أهل الجنَّة ..
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾
 
الجنة جمال و رضوان :
 
ائتِ بإنسان مريض ، وأدخله إلى حديقةٍ غنَّاء ، إنه لا يسعد بها ، لأن همُّه يحجبه عن جمال المكان ، ائتِ بإنسان على وشك الإفلاس ، وخذه إلى مكانٍ جميل ، لا يسعد به ، هذه الآية فيها إشارة إلى أن الجنَّة جنَّتان ، جمال المكان ..
﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾
 ( سورة الصف : آية " 12 " )
فيها :
 
﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾
( سورة محمد : آية " 15 " )
﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾
 ( سورة الواقعة )
و :
 
                                       ﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾
 ( سورة الواقعة )
وفوق كل هذا :
﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾
 ( سورة آل عمران : من الآية 15 )
أولاً : لا يوجد فيها قلق .
وثانيا : إذا أُدخِلت الجنَّة لا تخرج منها .
 
  الجنة مستقر دائم للإنسان وابتعاد عن القلق والتشاؤم :
 
إن الإنسان إذا نزل إلى مكان بالأجر يقول لك : كل ليلة بخمسة آلاف ، أو عشرة آلاف ، شيء جميل ، لكن ارتفاع الأجر يُذهِب سعادته بالمكان ، يقول لك : صاروا خمسة عشر ألفًا ، أو عشرين ألفًا ، أحياناً يأكل أكلاً غالياً ، والفاتورة تُنسيه لذَّة الطعام كله ، فهناك حالة نفسية ترافق الحالة المادّية ، أما في الجنة ..
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ﴾
 
لا يوجد قلق ، ولا إخراج من الجنَّة ، ولا يوجد منافسون ، لا وشاة ، ولا من يسعى لإخراجك منها ، ولا تقدُّم في السن ، ولا مرض ، لا يوجد شيء ..
 
  الدنيا دار كّدْحٍ وعمل والآخرة دار تكريم وتشريف :
 
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾
لكنَّ في الدنيا أحياناً يدخل الإنسان بيتاً فخماً ، وهو ليس مرتاحاً ، يقطن في حديقةٍ غنَّاء ، وليس مرتاحاً ..
وقبل أن نذكر نظام الجنَّة نذكر أن نظام الدنيا أساسه الكدح والسعي ..
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾
 ( سورة الانشقاق )
لكن نظام الجنَّة قائمٌ على أن أي خاطرٌ يخطر في بالك تراه أمامك ، أي شيءٍ تريده ، الدنيا دار كَدْحٍ ، ودار سعيٍ ، ودار عملٍ ، ودار ابتلاءٍ ، ودار مشقَّةٍ ، والآخرة دار تكريمٍ ، ودار تشريفٍ ، ودار جزاءٍ ، ودار راحةٍ ..
 
  أكبر تشريف للإنسان في الآخرة رؤية وجه الله الكريم :
 
أما الشيء اللطيف جداً ..
﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾
أحياناً يطلب الإنسان أشياء ثمينة جداً من الطعام ، لكن يفاجأ أن في هذا المطعم ألوانًا من الطعام لا يعرفها ، ولو عرفها لاختارها ، فمهما تصوَّرت نعيم الجنَّة فعند الله مفاجآت لا تعلمها .
قال بعض العلماء : المزيد هو " رؤية وجه الله الكريم " ، إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون البدر في كبد السماء ، فعن جَرِيرٌ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ :
(( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ )) .
[ صحيح البخاري عن جرير ]
كما ترون القمر ليلة البدر ، طبعاً رؤية الله في الدنيا مستحيلة .
 
 
﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً﴾
 ( سورة الأعراف : آية " 143 " )
 
  الأحمق من يضيع الجنة من أجل سنوات معدودة في الدنيا :
 
أجسامنا لا تحتمل أن نرى الله عزَّ وجل ، الجبل دُكَّ دكاً حينما تجلى الله عليه ، لكنه في الجنة كما أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما ورد في القرآن الكريم :
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾
 ( سورة القيامة )
هذا ، ولدينا مزيد ..
                                      ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾
أهذه الجنة التي هي إلى أبد الآبدين أَتُضَيَّعُ من أجل سنواتٍ معدودة في الدنيا ؟ لنكن صريحين ، متى يستقر وضعُ الإنسان ؟ بعد الأربعين ، حتى يكون له بيت ، وزوجة من الدرجة الخامسة ، بعد الأربعين ، ومعترك المنايا بين الستين والسبعين ، وهذه السنوات العشرون كلها متاعب ، وخصومات ، وأمراض ، وضيق مادي أحياناً ، وقلق أحياناً ، وخوف أحياناً ، هذه السنوات العشرون التي استقرت بها حياة الإنسان مشحونةٌ بالمتاعب ، من أجل سنواتٍ عشرين السعادة فيها ليست مضمونة نُضَيِّعُ جنةً عرضها السماوات والأرض ؟! أين عقل الإنسان ؟!
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾
أصبحت هذه الصورة المشرقة ..
  
 ( كم ) أنواعها ومعانيها :
 
ثم يقول الله عزَّ وجل :
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾
 ( كم ) هذه للتكثير ، وفي اللغة العربية ( كم ) نوعان ، ( كم ) الاستفهامية ، و( كم ) التكثيرية ، يضربون على هذا مثلاً : تسأله : كم كتاباً عندك ؟ فيقول : عندي ثلاثون كتاباً ، أما إذا قلت : كم كتابٍ عندي ؟ أنت لا تسأل ، ولكنك تفتخر ، ولكنك تستكثر ، كم كتاباً عندك ؟ هذه استفهامية ، الجواب : ثلاثون كتاباً ، أما إذا قلت : كم كتابٍ عندي ؟ فالجواب ما شاء الله ، فـ (  كم ) هنا تكثيرية .
 
 الهلاك عاقبة الأمم الطاغية السابقة :
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾
ما أكثر الأقوام التي كفرت ، وجحدت ، وانحرفت ، وطغت ، وبغت ، واستعلت فأهلكها الله عزَّ وجل ، وهذه الآثار بين أيديكم ، اذهب إلى مدينة تدمرَ وكانت فيها دولة من أقوى الدول ، هي دولة زنوبيا ، أين هم ؟ أين عادٌ وثمود ؟ والأنباط في الأردن ؟ والفراعنة في مصر ؟     ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾
 
لا تزال الأهرامات أحدَ أعاجيب الدنيا حتى الآن ، فمصر أرضٌ منبسطة ليس فيها صخور ، فمن أين جاءوا بالصخور ؟ من أسوان ، كل صخرة مساحتها عشرة أمتار في خمسة أمتار ، كيف حملت ؟ كيف نقلت من نهر النيل إلى موقع الأهرام ؟ كيف بنيت ؟ كيف نقلت إلى أعلى ؟ بأية طريقة ؟
هناك بعض الأهرامات فيها نافذة مدروسة بشكل أن الشمس لا تدخل منها إلا في يومٍ واحد في العام كله ، هو يوم موت الملك الذي بنيت الأهرام له ، أو يوم ميلاده ، هل يمكن أن تجهز نافذة بزاوية معينة ، عميقة ، لا تدخلها الشمس إلا في يوم واحد ؟ لو زرت الأهرامات في مصر لرأيت كل شيءٍ تحت الأرض ، حتى الطعام ، قطع اللحم المُقَدَّدة إلى الآن موجودة ، عمرها ستة آلاف عام ، القمح ، الحلي الذهبية ، كل حاجات الفراعنة وضعت في القبور ، لتوهمهم أنهم سيحيون حياةً ماديةً بعد موتهم .
 
القبر نهاية كل إنسان :
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾
 
من أروع التفسيرات لهذه الآية أنّ  ﴿ نقبوا في البلاد ﴾ أي سافروا ، إما للتجارة أو للسياحة ، يقول لك : أنت رأيت شلالات نياجارا ؟ لا ، لم أرها ، يقول لك : لم تر شيئًا !! ذهب إلى كندا ، وذهب إلى أمريكا ، ولليابان ، ذهب إلى دول شرقي آسيا ، زار المعابد ، زار الأماكن الأثرية ، ذهب إلى المشاتي ، إلى بعض الجُزُر .
﴿هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾
هل من محيص أي : هل من خلاص ، لابدَّ من أن ينتهي إلى القبر ، لو رأيت جواز سفر إنسان كثير السياحة ، مرة بأمريكا ، مرة باليابان ، مرة بالهند ، مرة بباكستان ، مرة بالشمال ، مرة بالجنوب ، آخر شيء بمقبرة باب الصغير.
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾
 
الموال الكثيرة والخيرات لا تنقذ الإنسان من الموت المحقق :
 
هل هناك مجال ؟
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
 ( سورة البقرة)
في القرآن الكريم صورة رائعة لرجل خائف ، يعدو وخلفه من يلحقه ليقبض عليه ، مذعور ، قلبه يكاد ينخلع من صدره من شدة الخوف ، وهو يعدو وآخر يلحقه ، متى يُصْعَق ؟ إذا رأى الذي يلحقه من ورائه أمامه ..
﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾
 ( سورة الجمعة : آية " 8 " )
يكون الواحد معه مشكلة في جسمه ، وهو يخاف أن يموت من هذا المرض ، يقوم باحتياطات غير معقولة ، ثم يفاجأ أن الموت جاء من طريق آخر .
﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾
 
لذلك : أحد أكبر أثرياء العالم مات في يخت مع امرأةٍ عاهرة في عرض البحر ، أين الغنى ؟ الإنسان برحمة الله ، الله عزَّ وجل يظهر آياته بطريقةٍ عجيبة ، أحياناً الذين يملكون ألوف الملايين لا تنقذهم أموالهم من موتٍ محقق ..
 
  الإنسان العاقل من يعدّ للساعة عدّتها بالاستقامة والطاعة :
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾
 
كثير من الأشخاص حتى من أهل الفن ، وهم في أوج نجاحهم جاءهم ملك الموت ، فالإنسان العاقل هو الذي يعدّ لهذه الساعة عدتها ، يعد لها طاعة ، يعد لها معرفة بالله ، يعدّ لها استقامة على أمر الله ، يعدّ لها عملاً صالحاً ، يعدّ لها إنفاقاً .
 
النظر في أفعال الله تلهم الإنسان إلى معرفة طريق الحق :
   
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
هذا الكلام ، وهذه الصور المشرقة والصور المرعبة في هذه السورة صورتان ، صورةٌ مرعبةٌ عن أهل النار ، وصورةٌ مشرقةٌ عن أهل الجنة .
 
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
 
الإنسان أحياناً حينما يتحرَّى الحقيقة فيجدها عن طريق التفكر في خلق السماوات والأرض ، وعن طريق تدبر آيات القرآن الكريم ، وعن طريق النظر في أفعال الله .
 
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
 ( سورة الأنعام )
 
  التفكر في خلق السماوات والأرض يوصل الإنسان إلى الحقيقة :
 
يمكن أن تعرف الحقيقة الكاملة من النظر في أفعال الله ، تابع المرابي كيف أن الله يدمِّرُهُ ، وتابع المتصدق كيف أن الله ينمي أمواله .
 
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
 ( سورة البقرة )
تابع الشاب المستقيم كيف أن الله يوفِّقُهُ ، وتابع الشاب المنحرف كيف أن الله يدمره ، تابع الذي ينصح الناس كيف أن الله يحفظه ، وتابع الذي يغش الناس كيف أن الله يسحقه ، تابع الذي يتقي الله في معاملة زوجته كيف أن الله يسعده بها ، وتابع الذي لا يتقي الله في معاملة زوجته كيف أن الله يشقيه بها ، يمكن أن تعرف الحقيقة الكاملة من النظر في الحوادث ، تابع البار بوالديه كيف أن الله يوفقه ، وتابع العاق كيف أن الله يدمره ، تابع الذي يغض بصره عن محارم الله كيف أن الله يسعده في بيته ، وأن الذي يطلق بصره في الحرام كيف أن الله يشقيه في بيته ، تابع هذا الطريق .
الطريق الآخر أن تنظر في خلق السماوات والأرض ، ترى العلم والحكمة ، واللطف ، والرحمة ، والقدرة ، والغنى ، ترى أسماء الله الحسنى كلها من خلال خلقه ، تدبر كلام الله عزَّ وجل ترَ أنه كتاب الله ، كلام رب العالمين ، وأقسمُ بالله العظيم أن الإنسان إذا تدبر كلام الله كل خليةٍ في جسده ، وكل قطرةٍ في دمه تشعر أنه كلام الله ، كلام الله ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه .
 
  القلب والعقل طريق الإنسان إلى معرفة الله :
 
فالآية :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾
الإنسان عنده القلب والعقل ، عنده عقل سلطه على الكون فعرف الله ، تدبر به القرآن ، فعرف كلام الله ، توجَّه به إلى الأحداث فعرف الله ، هؤلاء المتفوقون بتدبرهم ، وتأملهم ، وتفكرهم ، ونظرهم ، يعرفون الحقيقة ، وهناك طريق آخر أن تستمع إلى الحقيقة جاهزة .
يمكن أن تدخل غرفة وتتأمل ، تتفكر ، تنظر ، تتدبر ، تقرأ كلام الله عزَّ وجل ، يمكن أن تحضر مجلس علم فتستمع إلى الحقيقة خالصة :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
 
  على الإنسان أن يجمع بين العقل وإلقاء السمع وهو شهيد :
 
لكن مع إلقاء السمع شرط :
﴿وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
يمكن لإنسان أن يجلس في مجلس علم وأفكاره خارج المجلس ، يقول في نفسه : ماذا أعدوا لنا من العشاء اليوم ؟ في أثناء التفسير كان فكره في العشاء ، في أثناء التفسير قبض المبلغ ، ويسأل : هل دفع له ؟ إذا كان في أثناء حضور مجلس علم خواطر تجارية ، أو صناعية ، أو زراعية ، أو خواطر قبض أموال ، أو حل مشكلات ، أو فرق صندوق ، يا ترى أين راح المبلغ ؟ فهذه مشكلة ، ما أصبح شهيدًا في ذلك المجلس :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
 
فعندك طريقان : إما أن تعد الطعام أنت بنفسك ، وإما أن تأكله من يد أمهر الطبَّاخين ، وكلاهما حسن ، فإذا سمع الإنسان كلام النبي eفالنبي عليه الصلاة والسلام كل أحاديثه الشريفة في الحقيقة بيانٌ لكلام الله ، فيمكن أن تقرأ السنة النبوية المطهرة فتعرف من خلالها كلام الله عزَّ وجل ، ثلاثمئة حديثٍ حول البيوع ، والله عزَّ وجل قال :
﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾
 ( سورة النساء : آية " 29 " )
كلام الله موجز ، والنبي eفصّل ، والأصح من هذا وذاك أن تجمع بينهم ، أن تتفكر في خلق السماوات والأرض ، وأن تنظر في أفعال الله ، وأن تتدبر القرآن ، وأن تستمع إلى الحقائق جاهزةً ، أن تجمع بينهما ، أن تجمع بين العقل وإلقاء السمع وأنت شهيد .
 
  خلق الله عز وجل السماوات والأرض في ستة أيام دون تعب ونصب :
 
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾
﴿ اللغوب ﴾ هو التعب والنَصَب ، وهذه الآية ردٌ على اليهود الذين زعموا أن الله خلق الدنيا في ستة أيام ، ثم تعب فاستراح يوم السبت ، هذه أضحوكة ، وفرية من افتراءات اليهود ، قال تعالى :
﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾
طبعاً قال بعضهم : ستة أيام ستة الأطوار ، نظام الكون ليلٌ ونهار ، وصيفٌ وشتاء ، وربيعٌ وخريف ، ستة أدوار .
 
  الإنسان حينما يتصل بالله يستطيع أن يواجه أعداء الحق :
 
              ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾
دائماً وفي أغلب الأحيان يأتي الصبر مع التسبيح ، ما الذي يعينك على كلام هؤلاء الجهلة :
                                 ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾
لما يكون الإنسان في ضيق مادي ، أو ضيق معنوي ، أو حوله أناس أعداء منكرون ، مفنِّدون ، إن كان له صلة بالله فهذه الصلة تغنيه عن صداقتهم ، وتغنيه عن الاستماع إليهم ، والحقيقة أن الإنسان حينما يتصل بالله يستطيع عندئذٍ أن يواجه أعداء الحق ، لأن معه ذخيرة ، ومعه سلاح ، والاتصال بالله مُسْعِد ، لذلك الإنسان الفارغ لا يحتمل المعارضة ، ولا يحتمل النقد ، ولا يحتمل التخويف ، هو ضعيف في الأساس ، أما حينما يقوى بالله عزَّ وجل يصبح أقوى من كل قوةٍ تريد أن تنال منه .
 
الصبر مع التسبيح يغنيان الإنسان عن اعتراض المعترضين :
    
﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾
 
حينما تصلي تستعين بالصلاة على اعتراض المعترضين ، وعلى كيد الكائدين ، وعلى تشويش المشوِّشين ، وعلى انتقاد المنتقدين ، وعلى تفنيد المفندين ، لأنك تتصل بالله ، لذلك قالوا : الناجحون في الحياة ليس عندهم وقتٌ يلتفتون فيه إلى منتقديهم ، القافلة تمضي والكلاب تعوي ، أما الفارغون من الاتصال بالله عزَّ وجل فكل شيءٍ يزعجهم ، ورد في الأثر أن موسى في أثناء المناجاة قال : " يا رب ، لا تبقِ لي عدواً " ، فقال الله عزَّ وجل : " يا موسى ، هذه ليست لي " ، قال الله عزَّ وجل :
 
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾
 ( سورة الأنعام : آية " 112 " )
شيء طبيعي جداً أن يكون لك خصوم في العقيدة ، خصوم في المنهج ، فالمؤمن لا يبالي .
 
الخصم حينما ترد عليه ترفعه وحينما تهمله تسقطه :
 
﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾
 ( سورة الأنعام )
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾
 ( سورة الزمر )
لا تعبأ ، من عرف نفسه ما ضرَّته مقالة الناس به .
أحياناً يتمنى الخصم أن تلتفت إليه ، وأن تردّ عليه ، دعه مهملاً ، دعه في حيِّز النسيان ، لا تعبأ به ، لا تجعل له قيمة ، بعض الكُتّاب الذين كتبوا كلاماً يطعنون به في القرآن الكريم ، وفي النبي عليه الصلاة والسلام عرضوا كتابهم على مئات دور النشر فلم تقبل دار أن تنشر لهم هذا الكتاب ، فلما حدث هجوم على شخص المؤلِّف تهافتت دور النشر على نشر هذا الكتاب ، فأحياناً الخصم حينما ترد عليه ترفعه ، وحينما تهمله تسقطه .
النبي عليه الصلاة والسلام أوتي الفطانة كأي نبيٍ ..
 
  على الإنسان أن يسبّح ربه :
 
1 ـ قبل طلوع الشمس :
 
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾
هذه صلاة الفجر .
2 ـ قبل غروب الشمس :
﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾
صلاة الظهر والعصر .
3 ـ عند صلاة الليل :
 
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾
صلاة المغرب والعشاء وصلاة الليل .
 
على الإنسان أن يصلي السنن الراتبة التي صلاّها النبي بعد الصلوات المفروضة :
 
                                               ﴿ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾
أدبار السجود أي السنن الراتبة التي صلاَّها النبي بعد الصلوات المفروضة .
 
   كل الخلائق يسمعون الصيحة يوم القيامة :
 
﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾
هذه صيحة يوم القيامة ، لكن تقريباً للأذهان إذا صلى الإنسان في الحرم المكي في أي مكان ، في أي مكان على الإطلاق ، خارج الحرم ، أو داخل الحرم ، أو حول الكعبة ، أو تحت الأروقة ، في الطابق الثاني ، في الطابق الثالث ، على السطح ، في أي مكان تشعر أن صوت الإمام في أذنك ، طبعاً من خلال أجهزة صوت راقية جداً ، هذا تقريب للأذهان .
كل الخلائق يسمعون هذه الصيحة .
 
خروج الناس من قبورهم يوم القيامة للحساب :
 
طبعاً حينما تأتي يوم القيامة ، تأتي الصيحة فينسل الناس من قبورهم .
﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾
كنت مرة أمشي في جنازة فكان القارئ يقرأ :
 
                                    ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾
( سورة الغاشية )
  
  على الإنسان أن يعبد الله الذي يحيي ويميت :
 
لابدَّ من العودة إلى الله .
                                    ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ﴾
نحيي الميِّت بعد موته ، ونميت الحي بعد حياته ، إذاً من ينبغي أن تعبد ؟ من يحيي ويميت ، من يرزق ، من يسيِّر ، من الأمر كله بيده .
  
 أعمال الإنسان مسجلة عليه للحساب الدقيق يوم القيامة :
 
         ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾
قال تعالى :
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا*يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
( سورة الزلزلة )
يجب أن تعلم علم اليقين أن أعمالك كلها صغيرها وكبيرها مسجلة عليك .
  
 كل إنسان مخيّر ومهمّة النبي صلّى الله عليه  وسلّم أن يبلّغ فقط :
 
لذلك :
 
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾
من أوجه التفسيرات : ما أنت مجبرهم على الهدى ، أي أنت لك أن تبلِّغ فقط ، لن تستطيع إجبارهم لأنهم مخيّرون ..
﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾
جبَّار هنا بمعنى مُجْبِر ..
قال تعالى :
                                            ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾
 ( سورة الغاشية )
وقال سبحانه :
﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾
 ( سورة الأنعام )
﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾
أي أن نظام الخلق أن كل إنسان مخيّر ، ومهمَّة النبي أن يبلغ فقط ..
 
    على الإنسان أن يتخذ قراراً بطلب الهدى ليستفيد من القرآن الكريم :
 
﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾
هذا القرآن لا نستفيد منه إلا إذا آمنا بالله ، قال الله عزَّ وجل :
﴿قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً﴾
 
 
 ( سورة الإسراء )
لذلك :
﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾
لابدَّ من أن تتخذ قراراً بطلب الهدى ، وطلب الحقيقة من أجل أن تستفيد من هذا الكتاب الكريم .
﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب