سورة الفتح 048 - الدرس (5): تفسير الأيات (01 – 10) - الله جلَّ جلاله هو الذي يدبِّر الأمور ويتولى أمر هذا الدين العظيم

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الفتح 048 - الدرس (5): تفسير الأيات (01 – 10) - الله جلَّ جلاله هو الذي يدبِّر الأمور ويتولى أمر هذا الدين العظيم

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الفتح

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الفتح ـ الآيات: (01 - 10) - الله جلَّ جلاله هو الذي يدبِّر الأمور ويتولى أمر هذا الدين العظيم

02/06/2013 15:44:00

سورة الفتح (048)
الدرس (5)
تفسير الآيات: (1-10)
الله جلَّ جلاله هو الذي يدبِّر الأمور ويتولى أمر هذا الدين العظيم
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، مع الدرس الخامس من دروس تفسير سورة الفتح.
 
الفتح المُبين هو صلح الحديبية :
 
قال تعالى:
 
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
[ سورة الفتح ]
في أرجح الأقوال هذا الفتح المُبين هو صلح الحديبية، ذلك لأن المسلمين بعد هذا الصُلح برز لهم كيانٌ مستقلٌ، واعترف الخصوم بهم كقوةٍ مستقلةٍ في الجزيرة العربية، ودخل في دين الله في سَنَتي صلح الحديبية ما لا يدخل في الإسلام منذ نشأته، كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما خرج مع أصحابه في صلح الحديبية كانوا لا يزيدون عن ألفٍ وأربعمئة رجل، أما في فتح مكة صاروا فعشرة آلاف رجل، كل هذا في هذه السنوات المعدودة التي كان فيها صلح الحديبية، لذلك الله جلَّ جلاله عدَّ هذا فتحاً مبيناً.
 
الله جلَّ جلاله هو الذي يدبِّر الأمور ويتولى أمر هذا الدين :
 
أحياناً تمر الدعوة الإسلامية بمراحل، من مراحلها الأولى القتال والحماس، وهناك مرحلة تحتاج إلى سلمٍ، وإلى طمأنينة، وإلى استقرار، كي ينشط الدعاة إلى الله عزَّ وجل في نشر معالم هذا الدين، لذلك ربنا سبحانه وتعالى عدَّ هذا الصلح صلح الحديبية فتحاً مبيناً..
 
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
[ سورة الفتح ]
الله جلَّ جلاله هو الذي يدبِّر الأمور، وهو الذي يربي نبيه وأصحابه الكرام، وهوالذي يتولى أمر هذا الدين، فالإنسان إذا آمن أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه إليه يُرجع الأمر كله، وأن أفعاله كلها فيها حكمةٌ ما بعدها حكمة، وعلمٌ ما بعده علم، إذا أيقن الإنسان بهذه الحقائق عندئذٍ يستسلم لقضاء الله وقدره، ولتدبيره وتسييره.
 
النصر الذي أكرم الله به نبيه كان نصراً عزيزاً :
 
النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما فعله في صلح الحديبية كان يستلهم التوجيه من الله عزَّ وجل، لذلك قال: إني رسول الله ولن يضيِّعَني، والصحابة الكرام حينما تألموا لبعض الشروط في صلح الحديبية انطلقوا من أن الأمر الذي تمّ بين النبي وبين الأعداء كان عن اجتهادٍ أو عن رأيٍ ومكيدة، الأمر خلاف ذلك، النبي عليه الصلاة والسلام كان يتلقَّى الأوامر التفصيلية من الله عزَّ وجل، وأوضح مثالٍ على ذلك أن ناقته حينما وقفت قالوا: خلأت، قال: ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل.
 
﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
[ سورة الفتح ]
وصِفَ النصر هنا بأنه عزيز، أحياناً الإنسان ينتصر نصراً غير عزيز، نصر لجهاتٍ معيَّنة يدٌ في هذا النصر، هذا نصر يشوبه منة، لكن النصر الذي أكرم الله به نبيه كان نصراً عزيزاً.
 
نزول السكينة على قلب المؤمن يشعره بالسعادة و الطمأنينة :
 
ثم قال تعالى:
 
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
[ سورة الفتح ]
هذه السكينة إذا نزلت على قلب المؤمن شعر بسعادةٍ ما بعدها سعادة، وشعر باستقرارٍ وطمأنينةٍ ما بعدها طمأنينة، والذي يعين المؤمن على سلوك طريق الإيمان ليست قناعاته الفكرية فحسب بل تلك السكينة التي ينزلِّها الله على قلبه، هذه السكينة تحول بينه وبين الضعف، والوهن، والنفاق، والتملُّق، وضياع الذات، كل أعراض الإعراض تبدو مقيتةً في حياة الإنسان، لكن الإنسان إذا تنزَّلت على قلبه السكينة صار إنساناً آخر.
 
﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
[ سورة الفتح ]
 
الإنسان خُلِقَ لجنةٍ عرضها السماوات والأرض وجميع المصائب ردعٌ له :
 
فهناك جنود لا نراها، أحياناً الله جلَّ جلاله ينزِّل ملائكةً يثبِّتون الذين آمنوا، هناك تصرفات كثيرة جداً لا نعلمها ولا نراها، وهذا من قبيل:
 
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
[ سورة الفتح: 4 ]
كل هذه التصرُّفات.
 
﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
[ سورة الفتح ]
هذه الآية هي علة وجود الإنسان، خُلِقَ الإنسان لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، وجميع المصائب التي على وجه الأرض إنما هي ردعٌ للإنسان عن طريق هلاكه، ودفعٌ إلى طريق سعادته.
 
﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
 
الفوز العظيم أن تنتهي من الدنيا إلى جنة الله التي أعدَّها لعباده المؤمنين :
 
ما الفوز العظيم في نظرك؟ إن لم يكن الفوز العظيم في نظرك مُطابقاً للفوز العظيم في هذه الآية فأنت بعيدٌ عن الإيمان، الفوز العظيم أن تدخل الجنة، لهذا يقول سيدنا علي كرم الله وجهه: " يا بُنَيّ ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌ بعده الجنة بشر، وكل نعيمٌ دون الجنة محقور، وكل بلاءٌ دون النار عافية ".
مهما تمتَّعت في الدنيا، مهما نِلْتَ من مالها، ومن شهواتها، ومن مغانمها، ومن مكاسبها، إذا انتهت الدنيا بالإنسان إلى النار فهذا ليس بخير، ومهما ساق الله للإنسان من مصائب، مهما تحمَّل من مشاق، إذا انتهت الدنيا به إلى الجنة فهذا ليس بشر، لذلك المؤمن حينما يأتيه ملك الموت ويريه الله مقامه في الجنة، يقول: لم أر شراً قط، ينسى كل متاعب الحياة، ينسى كل المَشاق التي تحمَّلها، ينسى كل الهموم التي عاناها، وحينما يرى الكافر مكانه في النار يقول: لم أر خيراً قط، فلذلك الفوز العظيم أن تنتهي من الدنيا إلى جنة الله التي أعدَّها لعباده المؤمنين، والآية واضحة جداً.
 
الآخرة شيء عظيم على الإنسان أن يسعى لها :
 
كل أفعال الله، وكل تصرُّفاته، وكل تدبيراته، من أجل أن يدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، يقول عليه الصلاة والسلام:
((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غرس في البحر من مائه))
[ الطبراني عن المستورد بن شداد]
هذا كلام النبي، والنبي لا ينطق عن الهوى، الآخرة شيء عظيم، الدنيا فيها أماكن جميلة جداً، وفيها مباهج، وفيها مُتَع، وفيها طعام وشراب، ونساء، ورحلات، وسهرات، ولقاءات، والدنيا كما قيل: خضرةٌ نضرة، ومع هذا الجمال كله، يقول عليه الصلاة والسلام:
((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غرس في البحر من مائه))
[ الطبراني عن المستورد بن شداد]
بربِّك اذهب إلى طرطوس، واركب قارباً إلى أرواد، وامسك إبرةٍ واغمسها في مياه البحر واسحبها، ماذا أخذت من مياه البحر هذه الإبرة الصغيرة؟ ما عَلِقَ من الماء على هذه الإبرة هي الدنيا والبحر هو الآخرة، هذا كلام النبي ولا ينطق عن الهوى، ليس من شأن النبي أن يبالغ، المبالغات من شأن أشخاص عاديين، أما النبي الكريم فلا يبالغ، هذه الدنيا وهذه الآخرة، يكفي أنها إلى الأبد..
 
﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
[ سورة طه ]
فلذلك الفوز العظيم دائماً وأبداً، وازن بين تصورك للفوز العظيم وبين الفوز العظيم الذي ذكره الله في القرآن الكريم، إذا كنت تتوهم أن الفوز العظيم بزوجةٍ، أو بمنزلٍ، أو بمكانةٍ، أو بمالٍ، فهذا التصور مناقض لما في كتاب الله.
 
المؤمن الكامل يُحسن الظن بالله لأن الله جلَّ جلاله لن يدع المؤمنين لخصومهم :
 
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ
[ سورة الفتح: 6 ]
حينما دعا النبي المنافقين ليذهبوا معه إلى العمرة قبيل صلح الحديبية ظنوا أن قريشاً لن تدع النبي ستقاتله، والنبي لن يعود إلى المدينة، ولن يعود أصحابه إليها، ظنوا بالله ظن السوء، ظنوا أن الله سيتخلَّى عن هذا الدين العظيم، سيتخلى عن نبيه، سيتخلى عن المؤمنين، سيعذب الله  المشركين والمشركات، والمنافقين والمنافقات:
 
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
المؤمن الكامل يُحسن الظن بالله عزَّ وجل، لأن الله جلَّ جلاله لن يدع المؤمنين لخصومهم، الله جلَّ جلاله لن يُديل الكفر عن التوحيد، لن يُديل الشرك على الإيمان، لن يسمح لأعدائه أن يستمروا في قوتهم إلى ما شاء الله، يعطيهم جولةً ليمتحنهم لكن العاقبة للمتقين، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى ذكر أن المنافقين حينما دُعوا ليكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العمرة المباركة رفضوا لظنِّهم أن النبي عليه الصلاة والسلام لن يرجع وأصحابه إلى المدينة سالمين، لما بين النبي وأصحابه من جهة وبين كفار قريش من عداوةٍ وحروبٍ طويلةٍ تمَّت من قبل.
 
ربنا عزَّ وجل القلوب بيده والمخلوقات بيده والملائكة بيده :
 
ثم يقول تعالى:
 
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
[ سورة الفتح ]
أحياناً المرض الجلدي يكون من جنود الله، الفيروس الذي يصيب هؤلاء المنحرفين بنقص المناعة المُكتسب، أليس هذا الفيروس من جنود الله عزَّ وجل؟ وهذا الفيروس أضعف مخلوق على الإطلاق، ومع ذلك أوروبا وأمريكا بأكملهما، بكل طاقتهما، وبكل إمكاناتهما، لا يستطيعان أن يوقفا هذا الفيروس عند حدِّه.
 
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
فقلوب العباد بيد الله عزَّ وجل، أحياناً يلقي الله الخوف في قلوب الأعداء، والنبي الكريم يقول: نصرت بالرعب، فربنا عزَّ وجل القلوب بيده، المخلوقات كلها بيده، الملائكة بيده.
 
النبي الكريم يشهد يوم القيامة أمام رب العالمين على أمَّته استجابتهم أو رفضهم :
 
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
[ سورة الفتح ]
شاهداً على أمَّتك، قد بلَّغتهم، كلنا إذا وقفنا أمام مقام النبي عليه الصلاة والسلام نقول: أشهد أنك بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغُمَّة، وجاهدت في الله حق الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد. فكما أنك تشهد أن النبي بلَّغ الرسالة، النبي عليه الصلاة والسلام يشهد يوم القيامة أمام رب العالمين أنه بلَّغ الرسالة، يشهد على أمَّته استجابتهم أو رفضهم، يشهد على أمته إيمانهم أو كفرهم، يشهد على أمَّته استقامتهم أو انحرافهم.
 
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
للمؤمنين..
 
﴿وَنَذِيرًا (8)
للكافرين..
 
من طبق شريعة الله عزَّ وجل وسَّع رقعة الحق وضيَّق رقعة الباطل :
 
﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
أي تنصرونه، وتنصروا دينه، الله جلَّ جلاله غنيٌ عن أن ننصره، لكنك إذا نصرت دينه فكأنما نصرت الله عزَّ وجل، إذا أقمت شرع الله في بيتك نصرت الله.. إذا طبَّقت شريعة الله عزَّ وجل وسَّعت رقعة الحق، فإذا وسَّعت رقعة الحق ضيَّقت رقعة الباطل، هذا هو   النصر.
وأمثلة على ذلك كثيرة، تجار في سوق، لو أنهم جميعاً لم يتعاملوا بالربا، صار الذي يتعامل بالربا شاذاً، أما لو كلهم تعاملوا بالربا خذلوا دين الله عزَّ وجل، لو أراد أحدهم أن ينزه علاقاته المالية عن الربا صار شاذاً، نصر دين الله عزَّ وجل تطبيقه، إذا طبَّقت دين الله عزَّ وجل اتسعت رقعته وتنامت، وضيَّقت الباطل وحاصرته، أما إذا المسلمون استنكفوا عن نصرة دين الله عزَّ وجل فالباطل يتسع والحق ينكمش ويحاصر، وعندئذٍ يصبح الأصل هو الباطل والحق هو الاستثناء، وهذا الشيء واضح جداً في العلاقات الاجتماعية، في الحفلات، في التعامل المالي، في البيع، في الشراء، إذا كل المؤمنين طبَّقوا الدين تطبيقاً صحيحاً، أصبح الباطل هو الشاذ، هو الاستثناء، أما إذا قصَّروا وتهاونوا صار الأصل هو الباطل، والاستقامة هي الاستثناء.
 
من علامات الإيمان أن المؤمن يُعَظِّم شعائر الله و أوامره وكتابه :
 
لذلك:
 
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
التعذير النصر، والتوقير التعظيم، والهاء في توقيره تعود على الله جلَّ جلاله:
 
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
[ سورة الحج ]
من علامات الإيمان أن المؤمن يُعَظِّم شعائر الله، يعظم أوامره، يعظم كتابه، يعظم رسوله، يعظم أصحاب رسوله، فمن لوازم الإيمان أنه إذا ذكر أصحاب النبي عليك أن تُمْسِك، من علامة الإيمان أن توقِّر الله، وأن توقر نبيه، وأن توقر أصحاب النبي الذين أحبوا النبي وأحبهم النبي، هذه من علامات الإيمان، أن تعظِّم شعائر الله، أن تعظم الأوامر الإلهية.
 
 
محبَّة النبي هي محبة الله وإرضاء النبي هو إرضاء الله حُكماً :
 
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
[ سورة الفتح ]
﴿ُكْرَةً وَأَصِيلًا صباحاً ومساءً وبينهما، هذه الصلوات الخمس  أنت تسبح الله في الصلاة، أنت آمنت بالله وآمنت برسوله، ونصرت دينه وعظَّمت شعائره، وذكرته في صلواتك الخمس.
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
[ سورة الفتح: آية10  ]
لماّ الصحابة الكرام نُمِيَ إليهم أن سيدنا عثمان رضي الله عنه قُتِل، أراد النبي أن يتوثَّق من جاهزية أصحابه للقتال، فبايعه الصحابة.. بايعوه واحداً واحداً على الموت في سبيل الله، هذه البيعة في حقيقتها إنما هي بيعةٌ لله عزَّ وجل، القرآن الكريم يذكر كثيراً أن محبَّة النبي هي محبة الله، إرضاء النبي هو إرضاء الله، حُكماً، أضرب مثلاً: أنت حينما تأتي لمجلس علم تأتي إلى ربك، هذا بيت الله عزَّ وجل، أنت حينما تعين أخاك المؤمن أنت تنفذ أمر الله عزَّ وجل.
 
الدين أعظم وأجلّ من أن يكون مرتبطاً بأشخاص لأنه مبدأ إلهي :
 
في الدين لا يوجد أشخاص، هناك مبادئ، والحقيقة كلما عَظُمَت المبادئ صغر الأشخاص، وكلما صَغُرَت المبادئ كبر الأشخاص، المؤمن الصادق عاهد الله، وعاهده على الطاعة، وعلى البذل، فلذلك هدفه كبير، من علامات ضعف التفكير ربط الدين بأشخاص، ومن علامات النُضْج أن الدين أعظم وأجلُّ من أن يكون مرتبطاً بأشخاص معينين، الدين مبدأ إلهي، منهج من السماء إلى الأرض نسير عليه، فلذلك:
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
لا يوجد انفصال لأن النبي أنكر ذاته كلياً، هو باب الله كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ))
[ أخرجه مسلم عن ابن عمر ]
وكلنا في الصلاة نقول: " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ".
 
 
الحب في الله توحيد و الحب مع الله شرك :
 
لذلك الله عزَّ وجل في هذه الآية بيَّن أن نصرة النبي هي نصرةٌ لله عزَّ وجل، والبيعة للنبي إنما هي بيعةٌ لله عزَّ وجل، ومحبة النبي هي محبة الله عزَّ وجل، وفرقٌ بين أن تُحِبَّ في الله وأن تحب مع الله، أن تحب في الله هذا توحيد، وأن تحب مع الله هذا شرك، لأنك تحب الله تحب نبيَّه، لأنك تحب الله تحب نبيه وصحابته، لأنك تحب الله تحب النبي والصحابة والمؤمنين، فمحبَّتك للصحابة الكرام محبةٌ في الله، محبَّتُكَ للمؤمنين محبةٌ في الله، محبتك للنبي محبةٌ في الله، أما إذا أحببت إنساناً لذاته هذا حبٌ مع الله، الحب مع الله شِرْك.
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ
على الموت..
 
﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
فأحياناً الإنسان يتصدَّق، ورد بالحديث:
(( الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير ))
[ الطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف ]
أحياناً الإنسان يزور أخاه المريض، يقول الله عزَّ وجل في الحديث القدسي:
(( يا بنَ آدمَ مَرِضْتُ فلم تَعُدْني، قال: يا رب كَيْفَ أعُودُكَ وأنتَ ربُّ العالمين؟ قال: أمَا علمتَ أنَّ عبدي فلاناً مَرِضَ فلم تَعُدْهُ؟ أما علمتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لوجَدتني عنده ))
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة]
انظر إلى التوحيد، إذا زُرت أخاك المريض كأنَّك تعود الله عزَّ وجل.
((استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي))
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة]
هذا هو التوحيد، المؤمن إذا زار أخاه المريض فكأنما عاد ربه، إذا أطعم أخاه فكأنما أطعم ربه، إذا سقى أخاه فكأنما سقى ربه، إذا بايع نبيِّه فكأنما بايع الله عزَّ وجل، وسع الدائرة تجد الدين فيه انسجام، وفيه تَوَحُّد.
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
[ سورة الفتح ]
 
من كرم الله العظيم أنَّ الإنسان إذا عمل عملاً خالصاً يتجلَّى على قلبه بالسكينة :
 
تصوَّر الصحابة الكرام عندما نزلت هذه الآية، لما بايعوا النبي، والله عزَّ وجل يقول:
 
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
بماذا شعر الصحابي الجليل؟ لعله شعور لا يوصف عندما يعرف المرء أن يد الله فوق يده، وكل مؤمن في أي زمان إذا عمل عملاً خالصاً لله عزَّ وجل يشعر بسكينةٍ تنزل على قلبه، وهي رضا الله عزَّ وجل، فالله عزَّ وجل من كرمه العظيم أنَّك إذا عملت عملاً خالصاً له تجلَّى على قلبك تجلياً يشعرك أنه راضٍ عنك، هذه السكينة وهذه هي الرحمة، فإذا أنت أخلصت عملك لله عزَّ وجل تكون في رحمة الله، ومن كان في رحمة الله لا تستطيع قوى الشر كلها أن تنال منه، لذلك الإخلاص الإخلاص.
طبعاً كلمة لو نزعتها وحدها لها معنى آخر، مهما كان عدوك قوياً يد الله فوقه، مهما كان عدوك لئيماً، أو قاسياً، أو قوياً، أو حاقداً، لا تخف منه، لأن يد الله فوقه.. مُكَبَّل.. هذا ما يؤكِّده قوله تعالى:
 
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
[ سورة الزمر ]
 
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
[ سورة الأعراف ]
 
مباركة الله عز وجل بيعة الصحابة للنبي الكريم :
 
لو نزعت هذه الفقرة من الآية وحدها:
 
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
أما معناها السياقي فمعنى آخر، حينما وضعوا أيديهم في يد النبي عليه الصلاة والسلام وبايعوه على الموت في سبيل الله، قال تعالى:
 
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
أي أن الله بارك لهم هذه البيعة، ورضي الله عنهم بهذه البيعة، لذلك النبي قال:
(( يد الله مع الجماعة ))
[ رواه الحكيم وابن جرير عن ابن عمر ]
(( يد الله على الجماعة ))
[ أخرجه الترمذي عن ابن عباس ]
عليها حفظاً، وعليها دفاعاً، وعليها مباركةً، وعليها تأييداً، وعليها نصراً.
كأن الله سبحانه وتعالى فيما يبدو من هذه الآيات يحبنا أن نكون متعاونين، متباذلين، متناصحين، متحابين، متزاورين، هذا معنى قول النبي الكريم: " يد الله مع الجماعة.. تأييداً ونصراً.. ويد الله على الجماعة.. حفظاً ورعايةً.. " معها وعليها، فلذلك الله عز وجل قال:
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
[ سورة الفتح ]
 
أعظم أنواع البطولة أن الإنسان إذا عاهد الله عزَّ وجل أن يفي بهذا العهد :
 
الله عزَّ وجل في آية أخرى يقول:
 
﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
[ سورة الأعراف: 102 ]
فمن أعظم أنواع البطولة أنك إذا عاهدت الله عزَّ وجل أن تفي بهذا العهد، إنسان عاهد الله وهو يطوف حول الكعبة ألا يعصيه، كلما هَمَّ بمخالفةٍ أو تقصيرٍ عليه أن يذكر ذلك العهد.
 
﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
 [ سورة الفتح: آية 10 ]
هذا الضَم في عليُه للتعظيم لتعظيم العهد، أحياناً تعاهد صديقاً لك، تعاهد أخاً، تعاهد زميلاً، تعاهد رجلاً من عامَّة الناس، لكنك هنا تُعاهد الله، فجاءت الهاء مضمومة للتعظيم، هذا عهد غليظ، عهد كبير، أَنَّك تعاهد خالق الكون.
 
من نكث فإنما ينكث على نفسه و لا يضر أحداً غيره :
 
لذلك قال أحد الصحابة:" لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت".
 
﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
[ سورة الفتح: آية10    ]
وفي الحديث الشريف:
(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا))
[ مسلم عن أبي ذر]
 
﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر
 [ سورة الزمر: 7 ]
لذلك:
 
﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
أما الإنسان إن قصِّر، أو نقض عهد الله عزَّ وجل من بعد ميثاقه، أو لم يفِ بعهده مع الله عزَّ وجل، و لم يلتزم أوامر الشرع، فيضرُّ من؟ لا يضر أحداً لأن الله غنيٌ عنه، لكن إنما يضر نفسه وحده.
 
﴿ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
فالإنسان عندما يخرج عن قواعد الشرع يجب أن يفكر على من يخرج.
 
زوال الكون أهون على الله من أن يُضَيِّعَ مؤمناً :
 
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
 [ سورة التوبة ]
أي أن زوال الكون أهون على الله من أن يُضَيِّعَ مؤمناً، من أن يبخس حَقَّه.
 
﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
[ سورة طه ]
لا يظلم ولا ينقص من جزائه شيئاً..
 
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
[ سورة الفتح ]
 
الله تعالى يحول بين المرء وقلبه :
 
أحياناً الإنسان لضعف إيمانه بالله، لجهله، يظن أن الله لا يعلم ما في نفسه، نفسك مكشوفةٌ أمام الله عزَّ وجل، الله جلَّ جلاله يعلَم حقيقة نفوسنا، الله يحول بين المرء وقلبه.
 
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[ سورة ق ]
فالمخلَّفون من الأعراب لما دُعوا إلى أن يذهبوا مع النبي:
 
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا
 
الإعجاز العلمي في الآية التالية :
 
الحقيقة هذه يوجد فيها إعجاز قرآني، لما الله قال:
 
﴿سَيَقُولُ لَكَ
هم لو سكتوا لبطلت هذه الآية، وهناك آية أبلغ من ذلك:
 
﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
 [ سورة البقرة ]
الله عزَّ وجل وصفهم بأنهم سفهاء، وقال:
 
﴿سَيَقُولُ
لو أنَّهم فكروا قليلاً لما وصفوا بالسَفَه، لم يقولوا بعد، لو سكتوا لأبطلوا الآية، لكن يجب أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء..
 
﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا
 
الإنسان إن أصرَّ على شيء ورغب فيه يجد متسعاً من الوقت ليفعله :
 
هناك آية قرآنية أخرى:
 
﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
 [ سورة التوبة ]
أحياناً يكون العذر غير مقبول عند الله، الدليل: لو أراد الإنسان شيئاً يفعله، إذا أصرَّ على شيء، ورغب في شيء، وتوجَّه إلى شيء، يجد متسعاً من الوقت ليفعله، إذا كان الأمر يهمك تلغي كل المواعيد، وتنظم أمورك، فالإنسان يلقي الأعذار وهي عند الله غير مقبولة إطلاقاً، يلقي الأعذار وهو يعلم أنه كاذبٌ بهذه الأعذار.
 
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا
 
كل إنسان بقبضة الله عز وجل :
 
الإنسان يكذب، وينتحل المعاذير، ويقَدِّم الأعذار الواهية، وهو يعلم أن الله يعلم كذبه، فهذا الإنسان لو أراد الله أن يعالجه من يستطيع أن يدفع عنه؟ هذه المعالجة.
 
﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا
الإنسان في قبضة الله عزَّ وجل، فكيف يجترئ على الله عزَّ وجل؟ في قبضته؛ أجهزته، أعضاؤه، حواسه، أهله، أولاده، من حوله، من فوقه، من تحته، كلُّهم بيد الله عزَّ وجل.
 
﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
[ سورة الفتح ]
 
المنافق إنسان توعده الله عز وجل بعذاب أليم :
 
ترتاحون أيها المنافقون إذا لم ينقلب النبي والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، الإنسان حينما يفرح بمصيبة مؤمن يجب أن يعلم أنه منافق، وأنه وضع نفسه قطعاً في خندق المنافقين، لقول الله عزَّ وجل:
 
﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
[ سورة التوبة: آية  50  ]
شعور مخيف إذا ارتاحت نفسك لمصاب مؤمن بمكروه، أو خسارة، أو فاحشة، ابك على نفسك، واندب حظك من الإيمان، ليس لك حظٌ منه إطلاقاً:
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
[ سورة النور ]
الله عزَّ وجل توعَّدهم بعذابٍ أليم.
 
من علامة الإيمان أن يفرح الإنسان لخيرٍ أصاب أخاه المؤمن :
 
لذلك:
 
﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا
[ سورة الفتح: 12 ]
هكذا ظننتم، أما المشكلة فليس في هذا الظن:
 
﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ
[ سورة الفتح: 12 ]
شيء مُزَيَّن لكم، أن لن يعودوا إلى المدينة، أن يموتوا، أن يقتلوا، أن يقعوا في مواجهةٍ مع قريش فيبادوا، هذا هو المنافق، فالإنسان قبل أن يفرح بمصيبةٍ ألمَّت بمؤمن ليعُد إلى المليون، فرحه يعني أنه منافق،  أضرب مثلاً هل في الأرض كلها امرأةٌ تفرح بفضيحة ابنتها؟ فإذا كان ذلك فليعلم الإنسان أن هذه الفتاة ليست ابنتها، هذا التفسير.. فإنسان يفرح بمصيبة مؤمن معناها أنه ليس بمؤمن.
ومن علامة الإيمان أن تفرح بخيرٍ أصاب أخاك المؤمن، اشترى أخوك بيتاً، هنيئاً له، تهنِّئه من أعماق أعماقك، نال شهادة عالية، أسس مشروعاً ونجح، لأن المؤمن للمؤمنين، علاقة المؤمنين علاقة متميزة، الكل لواحد والواحد للكل، إذا أكرم الله عزَّ وجل أخاً لك، هذا خيره للجميع، كلهم له وهو لهم، هذا هو مجتمع المؤمنين، الفكر وحده لا يكفي، عندنا أفكار إسلامية، نحن بحاجة أن نعيش مجتمعاً إسلامياً، بحاجة إلى أن يشعر كلٌ منا بحبٍ حقيقيٍ لأخيه المؤمن.
 
من لم يؤمن بالله يتفلت من منهجه و نظامه وهذا التجاوز له عقاب عند الله عزَّ وجل :
 
 هؤلاء الذين زُيِّن في قلوبهم أن لن ينقلب النبي والمؤمنون قال:
 
﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
كالأرض البور لا خير فيها، هناك إنسان كتلة من الشر، إذا لم يكن كتلة شر فهو كتلة سلبية لا ينفع ولا يضر، يعيش لذاته، ما خرج من ذاته أبداً، يعيش لمصالحه، لبيته، لأولاده فقط، لا يتحرَّك، لا يعنيه أمر المؤمنين، لا يأمر بمعروف، لا ينهى عن منكر، لا يعين، لا يتحرَّك، لا يغار، سلبي، انسحب من الحياة، متقوقع، انهزامي، خانع، ليس هذا هو الإيمان.
﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)
الحقيقة السعير لا لأنه لم يؤمن فقط، هو حينما لم يؤمن بالله، بكتابه، بوجوده، بمنهجه، وبيان رسوله لمنهجه، معناه أنه تفلَّت من النظام، لما تفلَّت أكل ما ليس له، وقع بالانحراف، بالعدوان، فصار السعير لعدوانه، وإساءاته، وتقصيره الناتج عن تفلُّتِهِ من منهج الله عزَّ وجل، هذا هو التفسير الدقيق.
﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
من لم يؤمن بالله ورسوله، لا بدَّ من أن يتجاوز الحدود، مثله مثل سيارة تسير بلا مقود، محرك قوي ولكن لا يوجد مقود، والطرقات كلها متعرِّجة، فالحادث حتمي، إنسان فيه شهوات ينطلق بلا منهج، بلا قيم، بلا أمر، بلا نهي، بلا دستور، بلا نظام، تحرِّكه، شهواته، ونزواته، وأهواؤه، ومطامعه، فهذا الإنسان قطعاً لا بدَّ من أن يعتدي، أن يأخذ ما له وما ليس له، هذا العدوان وهذا التقصير وهذا التجاوز له عقاب عند الله عزَّ وجل.
﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)
[ سورة الفتح ]
 
الحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب