سورة الشورى (042 )
الدرس (1)
تفسير الآية: (1- 7)
ظاهرة الوحي
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الأول من سورة الشورى .
الأحرف التي تبدأ بها هذه السورة دليل الإعجاز في القرآن الكريم :
مع الآية الأولى :
﴿حم(1)عسق(2) ﴾
( سورة الشورى)
هذه الأحرف التي تبدأ بها هذه السورة ، والأحرف الأخرى وقف منها المفسِّرون مواقف متباينة ، وقد ذكرت لكم هذه المواقف في دروسٍ سابقة ، والملخَّص هو أن هذه الحروف إما أن الله سبحانه وتعالى أعلم بمراده ، هذه وجهة نظر بعض المفسرين . أو أن من هذه الحروف نُظَِم هذا القرآن الكريم ، وهذا دليل الإعجاز . أو أنها أسماءٌ لله عزَّ وجل ، أوائل أسماء الله عزَّ وجل . أو أنها أوائل أسماء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ..
عالَم الشهود وعالَم الغيب :
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3) ﴾
( سورة الشورى)
كأن هذه السورة (سورة الشورى) تلحُّ على موضوع الوحي ، وموضوع الوحي يقودنا إلى مقدِّمةٍ يسيرة ، وهي أن في العالَم عالَم الشهود وعالَم الغيب ، فعالم الشهود ما يتصل اتصالاً مباشراً بحواسِّنا ، فالشيء قد تراه بعينك ، أو قد تسمع صوته بأذنك ، أو تشم رائحته بأنفك ، أو تلمسه بيدك ، فعالَم الحِس هو عالَم الشهود ، وسبيل معرفة عالم الحس هو الحواس ، فبالحواس نتعرَّف إلى عالم الحس ، وما سُمِّيَ عالم الحس إلا لأن الحواس هي سبيل معرفته ، لذلك فهناك اليقين الحسي ، أي اليقين الذي يعتمد على الحواس في معرفة ما حول الإنسان .
ولكن كل شيءٍ غاب عنك أيها الإنسان هو عالم الغيب ، فقد غاب عن حواسِّك ، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالخبر الصادق ، فنحن الآن أمام عالمين ، عالم الحس وعالم الغيب ، فعالم الحس نتعرَّف إليه من خلال الحواس ، وعالم الغيب نتعرَّف إليه من خلال الخبر .
.وبشكلٍ مبسِّطٍ جداً : لو أنك في زيارة صديقٍ لك في بيته ، الغرفة التي أنت فيها هذه بالنسبة إليك عالم الحس ، لأنك تشاهد ما فيها ؛ من أثاث ، ومن ثريَّا ، ومقاعد ، وأدوات ، وتزيينات . لكن الغرفة التي إلىجوارها بعيدةٌ عن حواسِّك ولا تعلم عن مضمونها ، وعن موجوداتها إلا من خلال إخبار صاحب البيت
الشيء الذي يعجز عقل الإنسان عن إدراكه الله تعالى أخبره به :
فأنت أمام شيئين : إما أن تتصل بعالم الحس من خلال الحواس ، وإما أن تتصل بعالم الغيب من خلال الخبر ، فهذا شيء مبسَّط جداً . فالشيء إذا ظهرت عينه فسبيل معرفته اليقين الحسي ، إلا أن هناك شيئاً بين الحالتين إن شيءٌ غابت عينه وبقيت آثاره ، فسبيل معرفته هو الاستنباط العقلي ، فلو رأيت وراء الجدار دخاناً ، والعقل لا يفهم الشيء إلا بسبب فتقول : لا دخَّان بلا نار ، فيقينك بأن هناك ناراً خلف الجدار فهذا يقين استدلالي و ليس يقيناً حسياً .
. لكن الشيء إذا غابت عينه وغابت آثاره ، فلا سبيل إلى معرفته إلا باليقين الإخباري ، فعالم الغيب كالمستقبل الذي لا يقع . وكالماضي السحيق ، وكالأشياء المُغَيَّبة عنك كعالم الجن ، وعالم الملائكة ، وذات الله عزَّ وجل ، فهذه عوالم لا نعرفهابحواسِّنا ، والوحي هو الذي أخبرنا بها ، وهذا الكلام مفاده أن الإنسان مهما نما عقله ، ومهما اتسعت آفاقه ، و تعمَّقت ثقافته فهو بحاجةٍ إلى وحيٍ إلهيٍ يخبره عن شيءٍ غاب عنه وعن قدرة عقله في فهمه
فالقاعدة : إن الشيء الذي يعجز عقلك عن إدراكه فالله سبحانه وتعالى أخبرك به .
ظاهرة الوحي تعدُّ جزءاً من عقيدة المسلم :
إذاً ظاهرة الوحي هي ظاهرة تعدُّ جزءاً من عقيدة المسلم ، أما الأشياء التي ضمن نطاق العقل ، فعن طريق الاستدلال ، والحواسُّ وعن طريق المعاينة .
على كلٍ فالعقل مبني على الحواس ، إذ يأخذ الآثار ويستنتج النتائج ، فهو يأخذ الآثار أولاً التي عرفتها الحواس ، ويبني عليها استنتاجات عن طريق محاكمة العقل ، فعالم الحس هو عالم الشهود ، وعالم الغيب هو عالم الوحي .
لماذا خلقنا الله عزَّ وجل ؟ هذا نعرفه من خلال الوحي . وأين كنا قبل أن نأتي إلى الدنيا ؟ وماذا بعد الموت ؟ وبماذا كلَّفنا الله؟ كل ذلك نعرفه من خلال الوحي . إذاً حقيقة الكون ومبدعه وحقيقة الحياة وفلسفتُها و رسالة الإنسان ومهمَّته هذا كله نتعرَّف إليه من خلال الوحي ، إذاً العقل وحده لا يكفي ، وربَّما أغناك العقل في معرفة الله عزَّ وجل ، لأن الكون كلَّه تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى ، والكون يجسِّد أسماء الله الحسنى .
فمن خلال عقلك ذي المبادئ المتوافقة مع نظام الكون(مبدأ السببيَّة، والغائيَّة ، وعدم التناقض ) فهذا العقل المتوافق مع مبادئ الكون يتعرَّف إلى أنه لابدَّ لهذا الكون من خالق . فمن هو الخالق ؟ يقول لك الوحي : الله الذي خلق السماوات والأرض .
الوحي الذي يأتي الأنبياء من لوازم كمال الله عز وجل :
اقرأ القرآن من خلال عقلك فتقول : هذا ليس من كلام البشر ، لأن فيه إعجازاً ؛ إعجازاً علمياً ، وإعجازاً لغوياً ، وإعجازاً تشريعياً ، و إخبارياً ، تربوياً ، وتشعر بالدليل القاطع تلو الدليل أن هذا الكلام ليس كلام البشر ، هذا بالعقل تستنبطه ، وتؤمن أيضاً أن الذي جاء بهذا الكلام هو رسول من عند الله عزَّ وجل معه معجزة ، وانتهى والآن دور العقل ، فقد أوصلك إلى الله ، وهو لا يحيط بالله لكن يصل إليه ، وشتَّان بين الوصول والإحاطة ، أوصلك إلى الله ، وأوصلك إلى أن هذا الكلام كلامه ، وإلى أن الذي جاء بهذا الكلام رسوله ونبيُّه .
. والآن جميع الموضوعات التي يعجز عقلك عن إدراكها أخبرك الوحي عنها ؛ وعن ذات الله ، وعن أسمائه الحسنى ، وعن سر وجودك على وجه الأرض ، ولماذا خلقك ؟ وماذا بعد الموت ؟ وقبله ؟ وما سر هذه الحياة ؟ وماينبغي لك أن تفعل ؟ فهناك أمر ونهي ، وتوجيه ، وإنذار ، ووعد ، ووعيد وهذا كلُّه بالوحي
:والوحي الذي يأتي الأنبياء ولاسيما النبي عليه الصلاة والسلام ، إنه من لوازم كمال الله عزَّ وجل ، ولذلك جاءت الآية
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3) ﴾
( سورة الشورى)
رحمة الله عز وجل تقتضي دعوة عباده إلى الطاعة ليسعدهم في الدنيا و الآخرة :
الوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليس شيئاً جديداً ، ولا مستحدثاً ، ولا شيئاً لم يسبق له مثيل ، فهذه سنة الله في خلقه ، فأي أبٍ (من باب التقريب والتمثيل) لابدَّ أن ينصح ابنه إذا انحرف عن سواء السبيل ، فأن ينصح الأب ابنه ، وأن يبيِّن له طريق الفلاح والنجاح في الدنيا فهذا شيءٌ من لوازم الآباء الصالحين ، فإن فعلها أبٌ فليس معنى هذا أنه عمل شيئاً لم يفعله أحد . فشيءٌ طبيعيٌ جداً أن الله سبحانه وتعالى خالق الكون ، ورب العالمين ، رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لا يدع عباده من دون أمرٍ ، ونهيٍ ، وتوجيهٍ ، وإرشادٍ، ونصحٍ ، ووعدٍ ، ووعيدٍ، وإنذارٍ ، وتبيانٍ .. الخ .
فكلمة﴿ كذلك﴾ أي يوحي الله إليك وحياً كهذا الوحي ، كما أوحى الله إلى الأنبياء السابقين كذلك أوحى الله إليك ، وإذا أوحى الله إليك فهو وحيٌ كما أوحى الله إلى الأنبياء السابقين ، إذاً هذه سنة الله في خلقه ، ورحمة الله سبحانه وتعالى بعباده تقتضي أن يأمرهم ، وأن ينهاهم ، وأن يبيِّن لهم ، وأن يدعوهم إلى معرفته ، وإلى طاعته حتى يسعدهم في الدنيا والآخرة .
ما من نبيٍ كُلِّفَ برسالةٍ إلا أوحى الله إليه كتاباً يكون منهجاً لأتباعه :
.. لكن
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ (3) ﴾
( سورة الشورى)
:الله علمٌ على الذات وصاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى ، قال تعالى
﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾
( سورة الأعراف الآية : 180 )
فأسماء الله تعالى كلها حسنى ، ولذلك فأية قصَّةٍ ، أو أي تعبيرٍ ينتقص من كمال الله عزَّ وجل ؛ ومن عدالته ، ورحمته ، ولطفه ، وقدرته ، وقوَّته ، وغناه ، وعلمه فهذا الكلام مرفوضٌ لأن الله سبحانه وتعالى أسماؤه كلُّها حسنى ، وصفاته كلُّها فضلى ، إذاً :
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ (3) ﴾
( سورة الشورى)
..فمضامين الكتب السماويَّة ، أي ما من نبيٍ كُلِّفَ برسالةٍ إلا أوحى الله إليه كتاباً يكون منهجاً لأتباعه الذين يدعوهم إلى الله ، إذاً كما أوحى الله إلى الأنبياء السابقين أوحى إليك ، فهذا الوحي ليس جديداً ، وليس غريباً،وليس مستحدثاً
من احتاج إلى العزيز نال منه العزة و الكرامة :
﴿اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3) ﴾
( سورة الشورى)
..قال علماء التفسير : العزيز في مُلكه ، والحكيم في أفعاله . وكلمة عزيز شُرحت سابقاً ، أي أن الله سبحانه وتعالى واحدٌ أحد ، فردٌ صمد ، عزيز أي واحد ، ويستحيل أن تحيط به ، ويحتاجه كل شيءٍ في كل شيء ، عزيز ، لذلك أنت محتاجٌ إليه ، فإذااحتجت إلى العزيز نلت منه العزَّة والكرامة
اجعل لربِّك كل... ..عزِّك يستقرُّ ويثبت
فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميتُ
* * *
الحكيم ، كل شيءٍ وقع أراده الله ، وكل ما أراده الله وقع ، وإرادته متعلِّقةٌ بالحكمة المُطلقة . فالإنسان أحياناً لا يكون حكيماً ، لماذا ؟ لأنه قد تنقصه المعلومات ، فيرتكب حماقةً بجهله ، ولأنه قد يُضغَطُ عليه فيرتكبها ، وقد يغريه شيءٌ فيرتكبها أيضاً ، لكن الله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن كل هذه الصفات التي تُعَدُّ في الإنسان صفات ضعفٍ ، فحكمة الله مطلقة ، ومعنى ذلك أي أن الذي وقع لابدَّ من أن يقع ، ولو لم يقع لكان هذا نقصاً في حكمة الله ، ولكان الله مَلوماً ، فليس في الإمكان أبدع مما كان .
وهذه عقيدة إذا آمن بها الإنسان ارتاحت نفسه ، وارتاحت أعصابه ، وعلم أن الله سبحانه وتعالى حكيمٌ في أفعاله ، وأن شيئاً في الكون لا يقع إلا بإذن الله ، وأن كل شيءٍ يقع في الكون هو مزيجٌ من عدالته مع لطفه ، وقدرته ، وغناه ، ورحمته وكل أسمائه الحسنى داخلةٌ في أفعاله .
دخول أسماء الله عز وجل في أفعاله :
بعض المفسِّرين قال : حينما يتحدَّث ربنا عن أفعاله يستخدم ضمير الجمع فيقول :
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾
(سورة يس : من آية " 12 " )
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) ﴾
(سورة الحجر)
: أما إذا تحدَّث عن ذاته يقول
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(14) ﴾
(سورة طه)
فضمير الجمع الذي يستخدم في القرآن الكريم في معرض ذِكْرِ أفعال الله عزَّ وجل ، يعني أن كل أسمائه الحسنى داخلةٌ في أفعاله .
معرفة أسماء الله الحسنى شيءٌ أساسيٌ في عقيدة المؤمن :
:إذاً
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3) ﴾
( سورة الشورى)
فالحقيقة أنك حينما تؤمن بحكمة الله تستقبل قضاء الله وقدره بالرضا ، وحينما تؤمن بحكمة الله ترضى عنه ، وعن حظوظك من الدنيا ، وترضى عن كل مصيبةٍ ساقها الله إليك ، ولا تشعر إلا أن الذي بك هو أبدع ما يكون ، وتقول مع بعض الأئمة العظام : ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني .
والإنسان أيها الأخوة إذا آمن بحكمة الله صان صحَّته من العطب ، وإذا توهَّم أن هذا الذي أتاه ليـته لم يأتِ ، وأن هذا لو لم يأتِ لكان كذا وكذا ، فهذا التفكير ليس سليماً ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
فَلاَ تَقُلْ : لَوْ أَني فَعَلْتُ كَذَا كانَ كَذَا وَكَذَا، وَ لَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَما شاء فَعَلَ ، فإنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَملَ الشَّيْطانِ ))((
(رواه مسلم عن أبي هريرة)
:فمعرفة أسماء الله الحسنى شيءٌ أساسيٌ جداً في عقيدة المؤمن ، وإذا قلت : الله خالق الكون . فهذا لا يكفي و أن تؤمن بوجوده ، وبأنه هو الخالق ، وهو الرب فهذا لا يكفي ، والدليل أن إبليس قال
﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) ﴾
(سورة ص)
الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله فهذا إيمان لا يقدم و لا يؤخر :
. الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله ليس كافياً ، بل لابدَّ من إيمانٍ يحدث فيك تأثيراً
فدائماً أيها الأخوة هذه القاعدة أساسيَّة : ومعتقدك إذا بقي في معزلٍ عن سلوكك فهذا المعتقد غير كافٍ . والمعتقد الصحيح هو الذي يفعل فعله فيسلوكك ، فأنت في اللحظة التي تتريَّث تقول : هذا لا أفعله لأنه لا يرضي الله ، وهذا أفعله لأنه يرضي الله ، فالآن إيمانك فعل فعله فيك ، أما إذا كان إيمانك لا يقوى على توجيه سلوكك فهذا الإيمان لا يكفي ، ولذلك ابحث عن إيمانٍ يكفي ، ويكون له أثرٌ واضحٌ في مواقفك،أما إن لم تكن المواقف متأثِّرة بالإيمان فهذه المعتقدات أو هذا الإيمان لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، والعبرة أن يكون عملك صالحاً ، ولا يكون عملك صالحاً إلا إذا عرفت الله المعرفة الكافية ، لا أقول : المعرفة المطلقة . لأن المعرفة المطلقة ليست في مقدور أحد ، إذ لا يعرف الله إلا الله ، لكن المعرفة الكافية التي تحملك على طاعة الله ، فمادامت معارفك ، ومعتقداتك ، ويقينيَّاتك تحملك على طاعة الله ، كترك الحرام وأخذ الحلال ، فالآن مبدئياً هذه العقيدة جيَّدة وكافية لاستقامتك على أمر الله .
الحسد والضيق واليأس مشاعر ناتجة عن ضعف الإيمان :
الإنسان إذا ضعفت معرفتهبالله ضاقت نفسه ، وتبرَّم من حياته ، وألجأه ضعفه في إيمانه إلى متاعب كثيرة جداً ، فيقع في الحسد ، والضيق ، واليأس ، والتشاؤم ، والضجر، وفي الشعور بالقهر ، والشعور بالظلم ، فهذه كلها مشاعر ناتجة عن ضعف الإيمان ، أما إذا آمنت بالله حقَّ الإيمان ورأيته هو المتصرِّف ، وهو الحكيم ، والقدير ، والفعَّال ، والغني ، و السميع ، والمجيب ، والعليم ، والرقيب ، والقريب ، وهو الذي إذا ناديته قال : لبَّيك يا عبدي. وإذا تعاملت معه بهذه الطريقة ، طريقة المعرفة ، والسؤال ، والدعاء ، والجواب حُلَّت كل مشكلاتك .
ملكية الله عزَّ وجل للسماوات والأرض :
أيها الأخوة ... أنت في مُلْك الله عزَّ وجل وأنت مِلْكُ الله ، يقول الله عزَّ وجل :
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(4) ﴾
( سورة الشورى)
﴿له﴾ ، هذه اللام كما قال عنها علماء اللغة : لام المُلكيَّة . أي أن هذا الكون كلَّه بسماواته وأرضه له إيجاداً وتصرُّفاً ومصيراً ، فهو الذي أوجده ، وهو الذي يتصرَّف به ، وإليه مصيره . فإذا قلنا : له . هكذا ، ملكية الله عزَّ وجل للسماوات والأرض ، ولمن في السماوات والأرض ملكيَّةٌ تامَّة كاملة ، أوجده ، ويتصرَّف به وإليه مصيره .
فأين المفر ؟ لو أنك عصيت الله عزَّ وجل فأنت في قبضته ، ودائماً في قبضته ، وخللٌ بسيطٌ جداً جداً في جسم الإنسان يجعل حياته جحيماً ، والمال عندئذٍ لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، ولا ينفع ولا يغني ، فأنت إذا عرفت أنك في ملكه ، فهل يعقل أن تكون في ملكه وأن تعصيه ؟! هل يعقل أن تزور شخصاً في بيته وأنت تحت إشرافه وسيطرته ، وأن تستفزه ؟! فمادمت في ملكه لابدَّ من أن تطيعه ، مادمت في ملكه فهو رقيبٌ عليك ، وسيحاسبك ، فهو يعلم سرَّك ونجواك ، سرَّك وعلانيَّتك ، كلمة ﴿له﴾ :
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (4) ﴾
( سورة الشورى)
.إنه هو الذي أوجدها ، وهو الذي يتصرَّف بها ، وإليه مصيرنا جميعاً بدءاً من الفيروسات وانتهاءً بالمجرَّات
فالمجرَّة التي تبعد عنَّا خمسة وعشرين ألف مليون سنة ضوئيَّة له إيجاداً وتصرُّفاً ومصيراً ، والفيروسات التي لا تُرى إلا بالمجاهر الإلكترونيَّة التي تكبِّر الشيء ثلاثمئة ، أربعمئة ألف مرَّة هذه له أيضاً ، وأدق من الفيروس الذرَّة ، وبالتعبير الشائع من الذرَّة إلى المجرَّة له ، وأنت من هذه المخلوقات .
العاقل من يطيع الله عز وجل و يشكر نعمه :
القصد أيها الأخ الكريم أن تشعر أنك في ملكه ، وأنك في قبضته ، فهو الذي خلقك ، وهو قادرٌ في كل لحظةٍ على أن يتصرَّف بك ، إسعاداً أو إشقاءً ، إعطاءً أو حرماناً ، إكراماً أو إهانةً ، إما أن يرحمك أو أن يعذِّبك ، إما أن ييسِّر لك الأمور أو أن يعسِّرها أمامك ، وإما أن يعطيك أو أن يمنعك ، وإما أن يسعدك أو أن يشقيك ، أنت في قبضته وفي ملكه.
!! فالشيء الطبيعي المنطقي المعقول أن تطيعه ، تعصيه وأنت في ملكه ؟! أم تعصيه وأنت في قبضته ؟! أم تعصيه وإليه مصيرك ؟! وكيف تعصيه وقد خلقك ؟ ويعلم سرَّك وجهرك ؟ولا يعزب عنه شيءٌ من أمرك ؟
ورد في بعض الأقوال عن سيدنا بلال فيما أذكر:" لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت " . فالإنسان حينما يعصي الله عزَّ وجل يجترئ على خالق السماوات والأرض ، كأنه يستهين بمراقبة الله له ، كأنه يستهين بوعيد الله له ، ويستهين بهذا الشرع العظيم الذي أُنزِل من أجله ، فلذلك كلمة له في قوله تعالى :
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (4) ﴾
( سورة الشورى)
أي أنت في ملكه . وكل أعضائك في ملكه ؛ عينك في ملكه . وهناك رجل نال شهادة عُليا من بلد أجنبي ، وعُيِّن في منصب رفيع جداًَ ، ولحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل فَقَدَ بصره ، أجرى عمليَّة أو عمليتين ، انتهت العمليتان بفقد بصره ، ولقد جاءه البريد إلى البيت خلال شهر مع موظَّف يقول له : يا سيدي هذه المعاملة كذا وكذا ، ما توجيهك ؟ يقول له : موافق أو غير موافق ، ثم سُرِّحَ من منصبه ، يقول لأحد أصدقائه : والله يا فلان أتمنَّى أن أجلس على الرصيف أتكفَّف الناس ، وليس على كتفي إلا هذا الرداء ، وأن يُردَّ إليَّ بصري .
الإنسان كلَّما ارتقى يتعرَّف إلى نعم الله بوجودها لا بفقدها :
عينك بملكه ، والأذن بملكه ، واللسان بملكه ، والعقل كذلك ولماذا وزَّع الله هؤلاء المختلين في أكثر أماكن البلد ؟ بكل منطقة يوجد واحد منهم مختلاً عقلياً ، ما فائدة ذلك ؟ من أجل أن تعرف نعمة العقل ، كيف أن عقلك برأسك متوازن ، تتكلَّم الكلمة المناسبة ، تتحرَّك الحركة المناسبة ، تقف الموقف الملائم ، هذا دليل أنه يوجد عقل برأس الإنسان ، لو لم يكن هناك عقل برأسه لأصبح أضحوكةً بين الناس ، إذاً يا ربي عرَّفنا نعمك بكثرتها لا بزوالها . الإنسان كلَّما ارتقى يتعرَّف إلى نعم الله بوجودها لا بفقدها .
والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أفرغ مثانته يقول:
(( الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأمسك علي ما ينفعني ((