سورة الزُّمر 039 - الدرس (16): تفسير الأيات (47 – 52) ظلم النفس والغفلة عن الله سبحانه

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الزُّمر 039 - الدرس (16): تفسير الأيات (47 – 52) ظلم النفس والغفلة عن الله سبحانه

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الزُّمر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الزُّمر ـ (الآية: 47 - 52) - ظلم النفس والغفلة عن الله سبحانه

23/10/2012 17:45:00

سورة الزمر (039)
الدرس(16)
تفسير الآيات: (47-52)
ظلم النفس والغفلة عن الله سبحانه
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بَسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
الظلم هو الشِرك بالله والظلم هو أن تظلم نفسك قبل أن تظلم الآخرين :
 
أيها الأخوة الأكارم، مع الدرس السادس عشر من سورة الزُمَر ومع الآية السابعة والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
الذين ظلموا هم الذي أشركوا، لقول الله عزَّ وجل:
﴿ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾
[ سورة لقمان: 13]
ظلمٌ عظيمٌ لهذه النفس أن تتوهم القوة فيما سوى الله، أن تتوهم العزَّة عند غير الله، أن تتوهم السعادة فيما سوى الله، معنى ذلك أنك ظلمت نفسك ظلماً شديداً وظلماً كبيراً، وخسرت خسارةً فادحة، فالظلم هو الشِرك بالله، والظلم هو أن تظلم نفسك قبل أن تظلم الآخرين، ما ظلمت الآخرين إلا بعد أن ظلمت نفسك، حينما أبقيتها جاهلة فتحَرَّكت حركةً عشوائية؛ أكلت مال هذا، وشتمت هذا، واعتديت على هذا، لأنك ظلمتها بأن جعلتها جاهلة، لم تعلمها، لم تعرِّفها بربها، لم تعرفها بمنهج ربها لم تخوِّفها من الآخرة، استرسلت معها، أعطيتها ما تشتهي، كانت هي التي تحكمك ولست أنت الذي تحكمها، قادتك ولم تقدها، احتكمت إليها ولم تحتكم للشرع، ظلمت نفسك، فحينما ظلمت نفسك ظلمت الآخرين، وحينما ظلمت الآخرين للآخرين ربٌ يأخذ بحقوقهم.
 
أشد أنواع الظلم ألا تعتني بنفسك ولا تزكيها :
 
أغبى إنسان هو الذي يظن أنه إذا أكل أموال الناس بالباطل فهذا عملٌ ذكي، إنه عملٌ يقع في أدنى درجات الغباء، لأن لهؤلاء الذين أكلت مالهم، لأن لهؤلاء رباً، رباً سيأخذ حقَّهم منك ولو بعد حين، فلذلك ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾
هذا الذي أشرك بالله، اعتقد أن زيداً بيده الأمر، عُبيداً بيده الرزق، فلاناً بيده العزَّة، بيده الرفعة، إذا اعتقدت أن إنساناً ما بإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك فهذا هو الشرك، والشرك ظلمٌ عظيم، لو أنك في طريقك إلى بلدةٍ لتأخذ منها مبلغاً كبيراً جداً، وركبت القطار، ثم فوجئت أن هذا القطار لا يتجه إلى هذه البلدة؛ بل يتجه إلى بلدةٍ على الطرف الآخر، أليس هذا ظلمٌ لك؟ ضاع عليك المبلغ، وفاتت عليك الفُرصة.
فحينما يتجه الإنسان لغير الله لن يجد شيئاً، كما لو تعلَّقت بالسراب لن تجده شيئاً، ليس ماءً، فكل إنسانٍ اتجه إلى غير الله أشرك، أشرك شركاً عظيماً وظلم نفسه ظلماً عظيماً، الإنسان حينما يشرك سينفذ أمر هذا الذي توهَّمه عظيماً، سينفذ أمر هذا الذي توهَّمه قوياً، سينفذ أمر هذا الذي توهَّمه بيده الأمر، بيده الخير والشر، فإذا توجهت إلى غير الله وتوهمت أنه قادرٌ على أن ينفعك أو أن يضرك، وهو في الحقيقة لا ينفع ولا يضر فقد أشركت، وحينما أشركت ظلمت نفسك ظلماً عظيماً.
فحينما أشركت وظلمت نفسك ظلماً عظيماً الآن حركتك على غير هُدى، على غير منهج، سوف تأخذ ما لك وما ليس لك، وسوف تحاسب عن أعمالك في الدنيا وفي الآخرة، إذاً هذا هو الظلم العظيم، فالظلم أن تأخذ ما ليس لك، الظلم أن تعتدي على الآخرين، الظلم بل أشد أنواع الظلم ألا تعتني بنفسك، ربنا جلَّ جلاله يقول:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
[ سورة الشمس: 9-10]
زَكَّاهَا عرفها بربها، زَكَّاهَا حملها على طاعة ربها، زَكَّاهَا حملها على الإقبال عليه حتى طهرت من الأدران، وتحلَّت بالمكارم الإنسانية، فاستحقت جنَّة ربها، هذه الزكاة، علة وجودنا على وجه الأرض أن نزكي نفوسنا، آية صريحة قطعية الدلالة.
 
الإنسان حينما يظلم نفسه في الدنياتُكْشَفُ له الحقائق حينما يقدُم على الآخرة :
 
قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
[ سورة الشمس: 9-10]
هذا الذي يشتغِل بنفسه، يطهرها من كل نقيصة، من كل انحراف، من كل درن، من كلِّ معصية، ثم يحليها بالكمال، يحملها على مكارم الأخلاق، يحملها على طاعة الله، على بذل الغالي والرخيص، هو يمهِّد لها السبيل كي تتصل بالله عزَّ وجل، فإذا اتصلت به زكت، وإذا زكت سعدت في دُنياها وفي أُخراها.
لكن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وهم في الدنيا، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، نائم، مخدَّر بالشهوات، من لقاء إلى لقاء، من صفقة إلى صفقة، من سَفَرِ إلى سفر، من بلد إلى بلد، فحياته مفعمةٌ بالمباهج والمُتَع، فإذا اقترب الموت أو جاء الموت انكشفت له الحقيقة، عندئذٍ يُصْعَق، عندئذٍ يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا.
هذا الذي يظلم نفسه بالشرك، ويظلم نفسه حينما يبقيها جاهلةً، ويظلم نفسه حينما لا يحملها على طاعة الله، ويظلم نفسه حين لا يزكِّيها، ويظلم نفسه حينما يبعدها عن طريق الحق، هذا حينما تُكْشَفُ له الحقائق حينما يقدُم على الآخرة، حيث هناك قيَم جديدة، وموازين جديدة، والإنسان يوزن بمدى معرفته بربه، بمدى طاعته له، بمدى إحسانه للخلق، كل مكتسباته، وكل إنجازاته، وكل ميزاته تتلاشى.
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ﴾
[ سورة الفرقان: 23 ]
 
حجم الفدية يوم القيامة يشير إلى حجم العذاب :
 
الآن يتمنى هؤلاء الذين ظلموا.
﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾
ما في الأرض جميعاً، فلو فرضنا هناك من يملك حقلاً للألماس أو حقلاً للذهب، كم ثمنه؟ الذي يملك شارعاً بأكمله على الصفِّين المحلات والمكاتب والمستودعات، يملك مدينة، الشركات الكبرى له، كل الشركات ذات الجنسيَّات المتعددة كلها له، فما معنى:
﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾
كم هي أموال الدنيا؟ هذه الرساميل التي سُخِّرَتْ للشركات الكُبرى في العالم، كم هي؟ ما حجمها؟ ما حجم الإنفاق في العالم؟ ما حجم الدخل في العالم؟ ما ثمن الثروات في العالم؟ ما ثمن المواد الأولية في العالم؟
﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾
الإنسان لا يدفع إلا على قدر الشيء المُقابل، متى الإنسان يقول لك: ادفع مئة ألف وخلِّصني، معناها أنه يعاني كثيراً، ادفع مئتي ألف، معنى ذلك أن العذاب أشد، ادفع كل أموالي وخلصني، معناها العذاب لا يحتمل، فلو أن إنساناً يملك ما في الأرض جميعاً؛ من بيوت، وأراضٍ، وعقارات، وشركات، ومواد أولية، ومعادن، وفلزات، وعاين عذاب النار يقول: خذوا مني كل ما بيدي وخلصوني من هذا العذاب. كم هو هذا العذاب؟
فهل يتخلَّى إنسان عن بيته مقابل عذاب بسيط تلقاه من إنسان؟  يقدِّم بيته كله الذي لا يملك غيره، إذا كان العذاب لا يحتمل، إذا حُكِمَ عشرين سنة مع الأشغال الشاقة، يتخلى عن بيته وعن أرضه وعن متجره يقول لك: خلصني فقط. الصورة دقيقة جداً، حجم الفدية يشير إلى حجم العذاب، فكلما كان العذاب أشد، كلما سخا الإنسانُ بما يملك افتداءً من هذا العذاب، فربنا عزَّ وجل بطريقةٍ غير مباشرة، أراد أن يبين لنا أن العذاب الذي سيلقاه الظالم المشرك الذي أبقى نفسه جاهلةً، الذي لم يحملها على طاعة الله، الذي تحرَّك حركةً عشوائية فاعتدى على حقوق الآخرين وجاء يوم القيامة ليحاسب على أعماله كلِّها، هذا الإنسان لو أن الدنيا كلها بيده، لو أن أموال الأرض كلها بيده، لو أن كل ما في الأرض من مُمْتَلَكَات، كل شيء يُمَلَّك كان بيديه ورأى العذاب، لافتدى به نفسه.
 


 

الطَّامة الكُبرىأن تعتقد عقيدةً ثم تكتشف أن هذه العقيدة لا أصل لها :
 
قد يتلف أحد أعضاء الإنسان أحياناً، يقول لك: يجب أن أبيع بيتي لأصلح ما تلف، الإنسان في الدنيا يضحي بكل ما يملك من أجل أحد أعضائه، فكيف إذا واجه عذاباً لا يحتمل؟ هذه الآية:
﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
هذا كلام خالق الكون، هذا كلامٌ له أبعاده، هذا كلامٌ دقيقٌ جداً إذا تأَمَّلَهُ الإنسان عليه أن يبادر إلى طاعة الله، إلى تأدية الحقوق، إلى التبرئة من كلِّ ما عليه من ذمم، أن يُبادر إلى أداء الصلوات، أن يبادر إلى طاعة الله التامة في كل ما أمر، والانتهاء عن كل ما نهى عنه وزجر، لكن مركز الثقل في الآية:
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
يوجد عند الإنسان قناعات، وتصوُّرات، يُصعق حينما يأتي الواقع ليؤكد له أن كل تصوراته خاطئة، أن كل ما كان يعتقده ليس صحيحاً هذه هي الطَّامة الكُبرى، هذا هو الإحباط الذي ما بعده إحباط، أن تعتقد عقيدةً ثم تكتشف أن هذه العقيدة لا أصل لها.
إنسان اعتقد عقيدة خلال خمسين عاماً ودعا إليها ودافع عنها ثم اكتشف أنها عقيدةٌ لا أصل لها، صُعِق، والأمر حمله على أن ينتحر، مفاجأة كبيرة جداً، عاش عمره وفق هذه المعطيات، وفق هذه المبادئ، وفق هذه التصورات، ثم اكتشف أنها غير صحيحة وأنها ضالة.
 
للآية التالية معنيان :
 
لذلك لكي لا يتفاجأ الإنسان هذه المفاجئة التي لا يحتملها، ربنا عزَّ وجل وأنت في الدنيا ومن خلال القرآن الكريم بيَّن لك أن أمام الإنسان الظالم مفاجأةً خطيرةً:
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
العلماء قالوا: بدا لهم من الله، أي أنهم توهموا أن هذه الأعمال التي يفعلونها أعمال طيبة، ثم فوجئوا أنها أعمال سيئة، وأنها لا تُرضي الله عزَّ وجل، ولا بُدَّ من أن يدفعوا ثمنها باهظاً، توهَّموا أن هذا الذنب يمكن أن يتوبوا منه في المستقبل، ثم فاجأهم الموت، وماتوا على غير طاعة الله.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
توهموا أنهم يتوبون منه ثم فوجئوا أن الموت عاجلهم، هذا معنى.
معنى آخر، هو أن الإنسان يعتقد أن الله عزَّ وجل لن يحاسبنا هذا الحساب الدقيق، ثم يفاجأ أن كل أعماله سيحاسب عليها حساباً دقيقاً، الإنسان يتوهَّم أن النبي عليه الصلاة والسلام سيشفع لأمته، ثم يفاجأ أن هذه الشفاعة ليست لكل أمته، لمن مات غير مشركٍ، فأخطر ما في الإنسان، أو أخطر ما في عقيدته أن يعتقد اعتقاداً يُبنَى عليه عملٌ خطير ثم يفاجأ أن اعتقاده خاطئٌ وأن هذا العمل سيحاسب عليه، هذا شيء خطير جداً.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
فإذا توهمت أن هذا القاضي يمكن أن يحابيك في الحكم، فاطمأننت ولم تعبأ بخصمك، ثم فوجئت أن هذا القاضي لا يحابي أحداً، ولن يقبل منك أي شيء نظير أن يحكم لك، كان نزيهاً إلى أعلى درجة، هذه المفاجأة مفاجأة صاعقة، خسرت الدعوى، لأنه بدا لك منه ما لم تكن تحتسب، بدا لك أن هذا المدرس يمكن أن يعطيك الأسئلة فلم تدرس، ثم فوجئت أن هناك أسئلة دقيقةً دقيقة وأنك لم تحضِّر، وأنك خسرت عاماً بأكمله، هذا يسمونه الإحباط.
 
العاقل هو الذي لا يندم على فعلٍ فعله :
 
الإنسان يتوهم شيئاً ثم يفاجأ أن هذا الشيء غير صحيح، يعتقد عقيدة ثم يفاجأ أنها غير صحيحة، يتوهَّم توهُّماً ثم يتفاجأ أنه خسر خسارةً كبرى في هذا التوهُّم.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
فالعاقل هو الذي لا يندم على فعلٍ فعله، معناها في خطأ بالعقيدة، العمل مُنْعَكُس للفكر، الإنسان يتحرَّك وفق قناعات، يتحرَّك وفق معتقدات، يتحرَّك وفق مفاهيم، فإذا كانت المفاهيم والمعتقدات والتصورات والقناعات غير صحيحة، الحركة إذاً غير صحيحة، أنت مخير، منحك الله عزَّ وجل العقل أداة معرفة الله، منحك الكون من خلاله تتعرف إليه، منحك فطرةً سليمة، منحك شرعاً حكيماً، منحك اختياراً، منحك شهوةً كقوةٍ محرِّكة، أعطاك كل مستلزمات التكليف، ثم أنت أعرضت عن هذه المستلزمات واعتقدت اعتقاداتٍ ليست صحيحة، وفي ضوئها تحرَّكت، ثم فوجئت أن هذه حركة خاطئة وأنك ستدفع ثمنها باهظاً، هذا معنى:
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
المطلوب منَّا قبل أن نتحرك أن نجري جرداً لمعتقداتنا، جرداً لمفاهيمنا، جرداً لتصوراتنا، جرداً لقناعاتنا، هذه التصورات والقناعات والمفهومات والمعتقدات ينبغي أن تعرض على كتاب الله لأن هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن تعرض على سُنَّة رسول الله، عملية تصحيح للمفاهيم، هل تعتقد أن إنساناً انتمى إلى هذا النبي الكريم وهو متلبسٌ بالمعاصي والآثام أن النبي عليه الصلاة والسلام سيشفع له، هذا اعتقادٌ خاطئ، فالإنسان إذا اعتمد على هذه العقيدة، ولم يلتزم، ولم ينضبط، ولم يستقم، وقال: النبي الكريم يشفع لنا، ونحن من أمة محمد، هذا اعتقاد خطير أودى به إلى الهلاك، لذلك كل قضية تحقق منها..
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة النحل: 43 ]
﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾
[ سورة الفرقان: 59 ]
 
البطل والعاقل هو الذي يسير في طريقٍ عرف نتائجه قبل أن يصل إلى نهايته :
 
قبل أن تتحرَّك، قبل أن تُعطي، قبل أن تأخذ، قبل أن تغضب، قبل أن ترضى، قبل أن تَصِل، قبل أن تقطع، قبل أن تأخذ هذا الموقف قبل أن تنحاز إلى فلان أو إلى فلان، يجب أن تتحرَّك وفق الحقيقة والحقيقة ما طابقت الواقع، العلم ما طابق الواقع بدليل، فكل شيء غير مطابق للواقع هذا جهل، ليس الجهل أن تكون خالياً من المَعلومات، لا، فالإنسان وعاء، إذا كان هذا الوعاء فارغاً فالإنسان أُمِّي، أما إذا كان ممتلئاً مفهوماتٍ خاطئة، منطلقاتٍ خاطئة، تصوراتٍ خاطئة، هذا إنسان جاهل، كل إنسان يحتوي أو يمتلك معلومات غير صحيحة، علاقات غير صحيحة، مفاهيم خاطئة هذا إنسان يسمى جاهلاً.
عملية جرد المفهومات، والمعتقدات، والتصُّورات، والقناعات هذه عملية مهمة جداً، وأنت عندك مقياس، المقياس هو كتاب الله عزَّ وجل لأن هذا الكتاب حقٌ بأكمله، قطعي الثبوت، لا شك في ثبوته، كله من كلام الله عزَّ وجل، وما فيه حقٌ صِرف.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
لئلا تقع هذه المفاجئة، لذلك البطل هو الذي يسير في طريقٍ عرف نتائجه قبل أن يصل إلى نهايته، هذا هو العَقل، العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾
يقول من لا علم له: الله عزَّ وجل لن يحاسبنا، الله غفور رحيم ولكن الله عزَّ وجل قال:
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾
[ سورة الحجر: 49-50 ]
 
مُلَخَّص القول أن أية فكرةٍ يسمعها الإنسان لا بُدَّ من أن يطلب عليها الدليل :
 
قال تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾
الله غفور رحيم وعنده عذاب أليم، مُلَخَّص القول: أن الإنسان أية فكرةٍ يسمعها لا بُدَّ من أن يطلب عليها الدليل، لكن أن تكون أنت ضحية إنسان أخطأ، تلقيت شيئاً من دون تدقيق، من دون بحث، من دون دليل، تلقيته هكذا ولم تدقق به واعتمدته كعقيدة، وانطلقت منه، فإذا النتائج خطيرة جداً، هذا ليس عمل إنسان عاقل.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾
أحياناً ينطلق الإنسان في أعمال غير صحيحة، غير صالحة، مأخوذ بقيَم معينة، مأخوذ بروح العصر، قد يكون في هذا فساد، هذا العمل فيه اختلاط، هذا العمل فيه إفساد ذات البَيْن، هذا العمل فيه إيقاظ للشهوات النائمة، فالإنسان أحياناً بدافع من قناعات معيَّنة ينطلق في نشاطات، ثم يفاجأ أن هذه النشاطات لا ترضي الله عزَّ وجل، لأن العمل الذي يقبله الله عزََّّ وجل هو العمل الخالص، ما كان خالصاً وكان صواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السُنَّة.
 
يوم القيامة يري الله الإنسان أعماله التي فعلها في الدنيا :
 
قال تعالى:
﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ﴾
لو أن الإنسان أطلق لابنته الحُرِّيَّة، فخرجت سافرةً كما تشتهي ثم فوجئ أن قدمها زَلَّت وانحرفت، وهنا بدا له في الدنيا:
﴿ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ﴾
يوم القيامة يري الله الإنسان أعماله التي فعلها في الدنيا، كيف أنه سبَّب الفساد في الأرض، كان سبباً لفسادٍ عريض، أو كان سبباً لشقاءٍ كبير، وكل إنسان يتحرَّك على غير منهج الله عزَّ وجل، الله جلَّ جلاله يريه في الآخرة نتائج أعماله..
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾
[سورة يس: 12]
ندم يصيب الإنسان يوم القيامة، ندمٌ لا يُحتمل، الفُرصة انتهت، فرصةٌ واحدة استنفذها ولم يعرف ربَّه بها. ما دمنا أحياء، وما دام القلب ينبض فنحن في بحبوحة، التوبة سهلة، العودة إلى الله سهلة، والإصلاح سهل، الإنسان يفكِّر، يستخدم عقله الذي جعله الله له أداةً للمسؤوليَّة، هو مَناط التكليف، وأداة معرفة الله عزَّ وجل.
الدين لا يُختَصَر إلى الصلاة والصوم والحج والزكاة، الدين مجموعة كبيرة جداً من الأوامر والنواهي، الدين منظومة قيَم، الدين نظام كامل للإنسان، منهج فيه تفاصيل كثيرة جداً، فالمؤمن همُّه الأول أن يتعرَّف إلى الله أولاً، وإلى منهجه ثانياً، ثم يحمِل نفسه على تطبيق منهج الله ثالثاً، ليس هناك عملٌ أعظم من هذا العمل، معرفة الله أولاً، ومعرفة أمره ونهيه ثانياً، وحمل النفس على طاعة الله ثالثاً.
 
الخسران المبين :
 
قال تعالى:
﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾
الإنسان الجاهل يستهزئ أحياناً بالدين، يستهزئ بأهل الدين، يستهزئ بالمؤمنين، يستهزئ بالقيَم الدينيَّة، الإنسان الورع الذي لا يعصي الله عزَّ وجل، يُتَّهم باتهامات شتَّى، هذه الاتهامات أساسها استهزاء أهل الدنيا بأهل الإيمان، فهذا الذي استهزؤوا به أحاط بهم، هذا الذي استهزؤوا به وضعهم عند مسؤوليتهم، هذا الذي استهزؤوا به جعلهم يندمون على فِعْلَتِهِم.
﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ *وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾
الإنسان المؤدَّب لا يستهزئ، إذا لم يفهم شيئاً يسأل عنه، لو كان هو متلبّس بالتقصير ورأى إنساناً متفوِّقاً يحاول أن يقلِّده، يحاول أن يسأله، أما أن يأخذ موقف الاستهزاء من كل إنسان تفوَّق، أو تعرَّف إلى الله عزَّ وجل، أو اعتقد أن طاعة الله هي كل شيء بالحياة، فهذا هو الخسران المبين.
 
الإيمان الفطري يدعو الإنسان إلى أن يلجأ إلى الله عند الشدَّة وهذا لا يكفي ولا يُنَجِّي:
 
قال تعالى:
﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ ﴾
الإنسان هذا جنس الإنسان، الإنسان مركَّب بخصائص:
﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾
[سورة النساء: 28]
خُلِقَ هلوعاً، خُلِقَ منوعاً، خُلق عجولاً، الإنسان له خصائص، من خصائص الإنسان غير المؤمن أنه إذا مسَّه ضرٌ دعانا، هذا إيمانه الفطري، الإنسان مؤمن بالفطرة، مهما كان بعيداً عن الدين، مهما كان بعيداً عن الله عزَّ وجل.
فالإيمان الفطري يدعو الإنسان إلى أن يلجأ إلى الله عند الشدَّة، هذا الإيمان لا يكفي ولا يُنَجِّي، لأنه إيمان عند الضرورة، عند المصائب، والدليل:
﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾
الإيمان الذي يتأتَّى للإنسان عند المصيبة، ويدفعه إلى الالتجاء إلى الله عزَّ وجل، والابتهال له، والدعاء له، هذا الإيمان لا قيمة له ولا يجدي، الدليل أن الله سبحانه وتعالى إذا كشف عن هذا الإنسان هذه المصيبة عاد إلى ما كان عليه.
﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ﴾
مرَّةً طائرة فيها رُكَّاب مُلحدون، فلمَّا هبطت في جيوب هوائيَّة واضطربت، وظنوا أنهم ميِّتون لا محالة، دعوا ربَّهم، إذا ركب الإنسان البحر، ركب طائرة، واجه خطراً شديداً، يجأر بالدعاء، ويستجير ويدعو الله عزَّ وجل، هذا الإيمان ليس كافياً، لأنه عندما ينجو يعود إلى ما كان عليه.
 
الإنسان الغافل عن الله عز وجل يعزو كل شيء إلى ذاته :
 
قال تعالى:
﴿ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾
الإنسان في هذه الحالة ينسى الله عزَّ وجل، يحكي عن خبراته، عن ذكائه، عن الاحتياطات التي أخذها، عن خطَّته التي رسمها، عن تدبيره الذي دبَّره، عن كَيده الذي كاده، عن مكره الذي مكره، وكأن الله غير موجود، هذه النعمة التي أنعمها عليه، هذا الفضل الذي أسبغه الله عليه يعزوه إلى ذاته.
﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾
وهذه الكلمة قالها قارون، قارون:
﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ*وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ*قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾
[سورة القصص: 76-78]
أنت راقب الإنسان الغافل تجد أن كل أعماله يعزَّوها إلى ذاته وكأنه صنعها، وكأنه خلقها، يفتخر بإمكاناته، بقدراته، بذكائه، بثقافته، باطلاعه، بخطته الحَكيمة، بمواقفه الشجاعة، دائماً يفتخر، أي أنه يعزّي أعماله إلى قدراته الذاتيَّة مع أنها فضلٌ من الله عزَّ وجل، هو طلب لكن الله حقَّق، هو سعى لكن الله تفضَّل.
 
حظوظ الدنيا بأكملها موقوفة على طريقة التعامل معها :
 
قال تعالى:
﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾
معنى الفتنة الامتحان. حظوظ الدنيا بأكملها؛ المال من حظوظ الدنيا، العقل الراجح من حظوظ الدنيا، الوسامة من حظوظ الدنيا، الأولاد من حظوظ الدنيا، الزوجة من حظوظ الدنيا، المرتبة الاجتماعيَّة العليَّة من حظوظ الدنيا، القوَّة من حظوظ الدنيا، حظوظ الدنيا بأكملها ليست نِعَمَاً وليست نِقَمَاً، إنها موقوفة على طريقة التعامل معها.
المال ليس نعمةً وليس نقمةً، كيف اكتسبته؟ وكيف تنفقه؟ إن اكتسبته من حلال وأنفقته في حلال أصبح نعمة، إن اكتسبته من حرام وأنفقته في حرام أصبح نقمة، فلذلك هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
[ سورة الفجر:15-16 ]
جاء الجواب مع الردع:
﴿ كَلَّا ﴾
[ سورة الفجر: 17 ]
كَلا أداة نفيٍ وردعٍ، أي يا عبادي ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً وإهانةً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، إن أعطيتكم المال فهو نعمةٌ موقوفةٌ على طريقة استعمالها، إن أعطيتكم الصحَّة فهي نعمةٌ موقوفةٌ على طريقة استخدامها، إن أعطيتكم القوة فهي ابتلاءٌ وامتحانٌ وفتنةٌ، هذه القوَّة كيف تستخدمونها؟
 
 نِعم الله مطلقة :
 
إذاً:
﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾
حينما خوَّلناه نعمة مِنَّا، أي نعمة مطلقة، والمطلق على إطلاقه؛ المال نعمة، الصحَّة نعمة، الذكاء نعمة، القوَّة نعمة.
﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾
الله عزَّ وجل قال:
﴿ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾
[سورة يونس:14]
﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾
 [ سورة القصص: 105 ]
وهذا يذكِّرنا بقول الله عزَّ وجل:
﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
[سورة التكاثر:8]
قال العلماء: النعيم نعمة الصحَّة، نعمة الفَراغ، نعمة الكفاية، نعمة الطُمأنينة، نعمة الأمن، نعمة الأهل، نعمة المأوى، نعمة العَقل كل هذه النعم سوف تُسألون عنها، كيف أنفقتموها في الطاعات أم في المعاصي؟ لذلك يمكن أن نسمي حظوظ الدنيا درجات نرقى بها إلى أعلى عليين، أو دركات نهوي بها إلى أسفل سافلين، وهذا يذكِّرنا بقول الله عزَّ وجل:
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ ﴾
[سورة فاطر:2]
أي إذا رحم الله عزَّ وجل إنساناً، هذا الإنسان يسعد في أصعب الظروف، يسعد وهو في بيتٍ قميء، يسعد وهو بين جدرانٍ لا تزيد عن حجم جسمه، يسعد بدخلٍ قليل، أما إذا أمسك الله عنه رحمته، يصبح المال وبالاً عليه ونقمةً عليه، ربَّما قُتِلَ من أجل ماله، أما إذا تخلَّت عنه رحمة الله عزَّ وجل الشيء الذي يراه الناس نِعَمَاً يراه هو نِقَمَاً..
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ ﴾
[سورة فاطر:2]
 
آيات تبين أن رحمة الله إذا جاءت أنستك كل شيء وإذا حُجِبَت عنك لم يعجبك شيء:
 
رحمة الله إذا جاءت أنستك كل شيء، وإذا حُجِبَت عنك لم يعجبك شيء، هذه الآيات التي تتعلَّق بهذه الآية:
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
[ سورة الفجر:15-16 ]
هذه آية:
﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾
[سورة التكاثر:8]
هذه آية ثانية:
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
[سورة فاطر:2]
هذه آية أخرى.
 
 هناك قوانين ثابتة مطبَّقةٌ على الناس جميعاً :
 
إذاً:
﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
عندما ترك الإنسان طاعة الله من أجل الدنيا، فهل الدنيا تمنَعُ عنه عذاب الله؟ لا تمنعه عنه، الإنسان عصى ربَّه من أجل هذا المال، فجمع مالاً وفيراً، فلمَّا جاء ملك الموت، ورأى الحساب الدقيق والعذاب الأليم، هذا المال الذي جمعه من معصية هل ينفعه الآن؟ لا ينفعه.
﴿ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾
هناك قوانين ثابتة، قوانين ثابتة مطبَّقةٌ على الناس جميعاً، فالإنسان الذي يؤثر دنياه على آخرته يخسرهُما معاً، والذي يؤثر آخرته على دنياه يربحهما معاً، فحينما يعصي الإنسان ربَّه من أجل المال، المال لا ينفعه، حينما يعصي ربَّه من أجل مرتبةٍ معيَّنة، هذه المرتبة لا تحميه من عذاب الله، إن الله سبحانه وتعالى يمنعك من كل شيء، لكن الشيء الذي اعتصمت به من دون الله لا يمنعك من الله عزَّ وجل.
 
 الإنسان المسيء ينتظره من الله معالجات كثيرة والإنسان المُحْسِن له عند الله حياةٌ طيِّبة:
 
قال تعالى:
﴿ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾
معنى هذا أن الإنسان هو الإنسان، والقواعد التي يتبعها أو المواقف التي يقفها إذا كان جاهلاً وبعيداً عن الله عزَّ وجل هي هِي في كل زمان وفي كل مكان، لذلك قيل: ملَّة الكفر واحدة، الكافر هو الكافر في أي زمان وفي أي مكان، والذين كفروا بعضهم من بعض مواقفهم متشابهة، منطقهم متشابه، أفعالهم متشابهة، انحرافهم متشابه.
﴿  فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ﴾
الحقيقة الإنسان رهين كَسْبِهِ، أنت لك عمل، لك عمل متعلِّق بحرفتك، متعلِّق ببيتك، متعلِّق بعلاقاتك الاجتماعيَّة، متعلِّق بلهوَك، فالإنسان له عمل، إما عمل صالح أو عمل طالح، وعملك يحدِّد مصيرك الأبدي؛ إما إلى جنَّةٍ يدوم نعيمها، أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها، وربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ ﴾
هناك قوانين ثابتة، الإنسان إذا انحرف ربَّما دفع ثمن انحرافه باهظاً، الله عزَّ وجل قال:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
[ سورة الجاثية: 21 ]
معنى هذا أن الإنسان المسيء ينتظره من الله معالجاتٌ كثيرة والإنسان المُحْسِن له عند الله عزَّ وجل حياةٌ طيِّبة.
 ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
[ سورة النحل: 97 ]
 
كسب الرزق قد يكون وراء أكثر المعاصي التي يقترفها الناس :
 
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
[ سورة فصلت: 20 ]
معنى ذلك أن الإنسان عمله يحقّق له في الدنيا وفي الآخرة، وربَّما كان في الآخرة وحدها، لكن في الدنيا وفي الآخرة هناك تكريمٌ للمؤمن، وهناك تضييقٌ على غير المؤمن.
﴿ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾
ربَّما كان كسب الرزق وراء أكثر المعاصي التي يقترفها الناس، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
هذا المال الذي كان وراء هذه المعاصي والآثام، لو أيقن الإنسان أن الرازق هو الله عزَّ وجل، وما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، إذا أيقنت أن الله هو الرزَّاق ذو القوة المتين انتهى الأمر، أما إذا أيقنت أن الرزق متعلِّق بالذكاء، متعلِّق بالاحتيال، متعلِّق بعمل الإنسان الأخلاقي أو غير الأخلاقي، مثل هذا الإنسان ليس من المؤمنين الصادقين، ليس من الذين يتوسَّم فيهم الإيمان.
 
حينما يوقِن الإنسان أن الله هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين عندئذٍ لا يعصي الله أبداً :
 
قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾
الذي يكسب الرزق يا ترى يكسبه بذكائه فقط أم بتوفيق الله عزَّ وجل؟ أحياناً الإنسان يفقد شيئاً من عقله، انتهى، يفقد بصره ويكون في منصب رفيع جداً، انتهى، أحياناً هذه القدرات التي أودعها الله في الإنسان يفقدها، أحياناً الإنسان يفقد ذاكرته فيصبح أثر بعد عين، عند الإنسان مهارات معيَّنة، عنده حِرَف معيَّنة، هذه من فضل الله عزَّ وجل، أما أن يعزوها إلى ذاته، وأن يعتمد عليها من دون الله:
﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
الله هو الرزَّاق، لذلك قالوا: كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً، يحرص الإنسان على حياته ورزقه، وحينما يكون جاهلاً أو ضعيف الإيمان، حفاظه على حياته وعلى رزقه يحمله على معصية الله عزَّ وجل، ما النتيجة؟ النتيجة أنه يخسر الرزق وطاعة الله عزَّ وجل، أما حينما يوقِن الإنسان أن الله عزَّ وجل هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين عندئذٍ لا يعصي الله أبداً، لا يغشُّ الناس، لا يكذب عليهم، لا يحتال عليهم، لا يأخذ ما ليس له، الله عزَّ وجل يتفضَّل عليه بالطاعة، ويتفضَّل عليه بالرزق الوفير.
﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب