سورة المائدة 005 - الدرس (30): تفسير الآيات (063 - 063) الدور الخطير الذي أناطه الله بالعلماء والدعاة إليه

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة المائدة 005 - الدرس (30): تفسير الآيات (063 - 063) الدور الخطير الذي أناطه الله بالعلماء والدعاة إليه

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 17 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 08 - فقدنا الأمل في الدعاء - د. عمر عبدالحفيظ           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - التضامن مع الأسرى           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 389 - سورة المائدة 006 - 006           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 272 - مقبرة باب الرحمة           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 07 - بشرى لمن قصف بيته - الشيخ محمد نور         

الشيخ/

New Page 1

     سورة المائدة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة المائدة - تفسير الآية: (063 - 063) - الدور الخطير الذي أناطه الله بالعلماء والدعاة إليه

21/03/2011 05:32:00

سورة المائدة (005)
الدرس (30)
تفسير الآية: (63)
الدور الخطير الذي أناطه الله بالعلماء والدعاة إليه
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
آية اليوم تشير إلى الدور الخطير الذي أناطه الله بالعلماء والدعاة إليه :
 
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثلاثين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الثالثة والستين، وهي قوله تعالى:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾
وقبل هذه الآية:
﴿ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
أيها الأخوة، كأن آية اليوم تشير إلى الدور الخطير الذي أناطه الله بالعلماء والدعاة إليه، فالله عز وجل يقول:
﴿ لَوْلَا ﴾
ولولا تفيد في اللغة الحض، لولا فعلت كذا، أي افعل كذا:
 ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾
 
القدوة أبلغ من التبليغ :
 
قال علماء التفسير: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود، أو الربانيون المنسوب إلى الرب، فهذا الذي يدعو إلى الله منسوب إلى الله، محسوب عليه، هذا الذي يدعو إلى الله يمثل وحي السماء، يمثل كمال الإسلام، يمثل العلم، يمثل الورع. لذلك سيدنا علي رضي الله عنه يقول: قوام الدين والدنيا أربعة رجال، عالم مستعمل علمه، أي عالم يطبق علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه.
ما الذي يحصل؟ قال: إذا ضيع العالم علمه، لم يستعمل علمه، لم يطبق علمه دعا إلى شيء وهو لا يطبقه، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، صار هذا الإنسان أداة تنفير من الدين، لأنه تكلم شيئاً وفعل شيئاً آخر، هذا الإنسان يحمل الناس على أن يكفروا بالكلمة.
الأنبياء بماذا جاؤوا؟ جاؤوا بالكلمة، لم يأتوا لا بالبوارج، ولا بالصواريخ، ولا بالطائرات، ولا بحاملات الطائرات، ولا بالكمبيوتر، جاء الأنبياء بكلمة صادقة، فقلبوا وجه الأرض، لكن الكلمة حينما لا تكون صادقة يكفر الناس بها، وهذا الذي حصل، لذلك الخطاب الديني الآن في أكثر الأحايين لم يحقق أهدافه، لأنه الأنبياء حينما طبقوا ما قالوا، قلبوا وجه الأرض، والذين ينقلون العلم للناس إذا لم يطبقوا حملوا الناس على أن يكفروا بالكلمة، قال: فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره، الفقير كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه: كاد الفقر أن يكون كفراً، فالفقير حينما لا يجد حاجته، ولا كرامته، ولا يرى حقوقه، يكفر بكل شيء، فيبيع نفسه للشيطان، وهذا الذي يحصل.
إذاً: البطولة لا أن أتصدر المجالس، وأن ألقي المواعظ، البطولة أن أكون مثلاً أعلى، أن أطبق ما أقول، والحقيقة النطق سهل، أي إنسان أتاه الله ذاكرة قوية، وحافظة متينة، وطلاقة لسان يبلغ ويتكلم، لكن أن تكون في مستوى ما تبلغ، وأن تفعل ما تقول، وأن تحقق ما تقول لتكون قدوة، فهذا الذي يريده الله عز وجل.
لذلك الأنبياء العظام لهم مهمتان كبيرتان، المهمة الأولى أنهم قدوة، والمهمة الثانية أنهم مبلغون، لكن القدوة أبلغ من التبليغ، الله عز وجل يقول:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ ﴾
هؤلاء الربانيون المنسوبون إلى الله، المحسوبون عليه، الذين يمثلون وحي السماء، يمثلون الكمال البشري، من هنا قال بعضهم: الورع حسن، لكن في العلماء أحسن، والتوبة حسنة، لكن في الشباب أحسن، والحياء حسن، لكن في النساء أحسن، والصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، والسخاء حسن، لكن في الأغنياء أحسن ".
 
الآية التالية تتحدث عن دور العلماء الذين حمّلهم الله أمانة التبيين :
 
الأزمة الآن أزمة خطاب ديني، وكأن هذه الآية تتحدث عن دور الذين ينطقون بوحي السماء، عن دور الدعاة إلى الله، عن دور العلماء الذين حملهم الله أمانة التبيين.
خليفة في موسم الحج التقى مع أحد العلماء، قال له: سلني حاجتك، قال له: والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، فلما التقاه خارج المسجد قال له: سلني حاجتك، قال: واللهِ ما سألتها من يملكها، أفأسألها من لا يملكها؟ فلما ألح عليه قال: نجني من النار، وأدخلني الجنة، قال له: هذه ليست بيدي، قال له: إذاً ليس لي عندك حاجة، أرأيت إلى هذه العفة. الحسن البصري سئل: بمَ نلت هذا المقام؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي، فكيف إذا استغنى الأمراء عن علم العالم، والعالم احتاج الأمراء في دنياه، انتهت مهمته، الله عز وجل يقول:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾
[ سورة الأحزاب: 39]
هؤلاء ما صفاتهم، لهم آلاف الصفات، أليس هذا المبلغ صادقاً، طبعاً صادق، أليس أميناً؟ أمين، أليس مصلياً؟ مصلٍّ، أليس صائماً؟ صائم، أليس ورعاً؟ ورع، لماذا أغفل الله كل هذه الصفات، ولم يذكرها، اكتفى بصفة واحدة، قال:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
[ سورة الأحزاب: 39]
لو أن هذا الذي كلفه الله أن ينقل العلم للناس خشي من غير الله، ما الذي يحصل؟ سينطق بالباطل إرضاء له، وسيسكت عن الحق خوفاً منه، فماذا بقي من دعوته؟ انتهت دعوته، آية دقيقة جداً:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
[ سورة الأحزاب: 39]
أبو جعفر المنصور قال لأبي حنيفة النعمان: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا، فقال له: ولمَ أتغشاكم؟ فليس لي عندكم شيء أخافكم عليه، وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟
 
الدين توقيفي لا يقبل التغيير ولا التعديل ولا التطوير ولا الزيادة ولا النقصان :
 
أخوتنا الكرام:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ ﴾
المشكلة الآن أن الشرع في هذا المستوى، بمستوى عال، وأن الناس في مستوى متدنٍّ، الداعية أو العالم أمامه خياران، إما أن يرفع الناس إلى مستوى الشرع، وإما أن يهبط إليهم، الحالة الثانية أهون وأسهل، وتوسع له قاعدته بشكل كبير جداً، ويصبح عالم العصر، وهذا الإنسان المرن الواقعي الحديث العصري، لكن على حساب أحكام الشرع، هذه يجوز، وهذه يجوز، وهذه يجوز، وهذه بلوى عامة، وهذه فيها رأي ضعيف، وهذه فيها رأي شاذ، فإما أن يهبط إلى الناس، أو أن يرفع الناس إلى مستوى الشرع، إذا أراد أن يرفع الناس إلى مستوى الشرع لا يرتفع معه إلا قلة قليلة، أما إذا هبط إلى مستوى الناس يرى جماهير لا تعد ولا تحصى، هذه مشكلة موجودة في الأديان السماوية الثلاثة، فإما أن تتملق الناس، وأن تفتي لهم بما يهوون، وأن تقدم لهم الحلول التي لا ترضي الله، ولكنها ترضي غرورهم، أو ترضي شهواتهم، أو ترضي شبههم، وإما أن تصر على موقف دقيق، أهم شيء في هذا الموضوع أن الدين توقيفي، معنى توقيفي أنه لا يقبل التغيير، ولا التعديل، ولا التطوير، ولا الزيادة، ولا النقصان، لا يقبل هذا أبداً لأنه توقيفي، ولأنه من عند الله، لو كان من عند البشر فالبشر كماله نسبي، وإطلاعه نسبي، وفهمه نسبي، ودائرته متعلقة بالواقع، أما لأنه من عند خالق البشر، فكمال هذا الدين مطلق، لذلك أي حذف اتهام لهذا الدين بالزيادة، وأي إضافة اتهام لهذا الدين بالنقص، ولأن الله عز وجل يقول:
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾
[ سورة المائدة: 3 ]
 
التجديد في الدين :
 
أي إن عدد القضايا التي عالجها الدين تامة عدداً، وأن طريقة المعالجة كاملة نوعاً، إذاً هذا الدين توقيفي، وما التجديد التي يروّج له؟ هذا التجديد يروج له الآن بشكل لا يتصور، هناك ترويج للتجديد، أما التجديد الذي يروج له فلا يفهم في هذا الدين إلا على النحو التالي، أن ننزع من الدين كل ما علق به مما ليس منه.
هذا هو التجديد، أي بناء من أرقى أنواع الحجر تراكمت على هذه الأحجار عبر السنين والحقب طبقة سوداء شوهت منظره، فلذلك التجديد أن ننزع عن هذا البناء كل ما علق به مما ليس منه، أما أن نفهم التجديد تطوير في أسلوب الخطاب الديني فلا مانع، أن نتخذ قنوات جديدة في الخطاب الديني لم تكن معروفة من قبل لا مانع، لأنه:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾
[سورة إبراهيم: 4]
أي بطريقة نقل المعرفة في قومه، فقد نستخدم أساليب الآن لم تكن من قبل، مثلاً الآن هناك مجال كبير جداً عبر المواقع المعلوماتية، فقد يدخل على هذه الصفحة مئات الألوف، الذين يستخدمون هذه المواقع يزيدون في الأرض عن ثلاثمئة مليون، فإذا أحسنت استخدام هذه القنوات الدعوية الجديدة فهذا تطوير في أسلوب الخطاب الديني.
كنا حينما نحضر مؤتمراً نأتي بمحاضرات والله بحجم هذه الطاولة، حملها صعب، الآن يعطى الذي حضر المؤتمر قرصاً مدمجاً فيه ثلاثمئة موضوع، كل موضوع مئتا صفحة في قرص يوضع في الجيب ولا يرى، هناك تطوير، فتطوير الخطاب الديني بمعنى توفيق التقنية الحديثة بنشر هذا الدين، إذاً هذا مسموح به، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾.
 
النهي يحتاج إلى إرادة قوية وإلى تضحية و ورع و خوف من الله :
 
إذاً:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْإِثْمَ ﴾
أنت تمثل الدين، وقيلت أمامك كلمة تتعارض مع الدين، إذا بقيت ساكتاً أسلم لك وأكثر راحة، مصالحك محققة، وتعيش في بحبوحة، ليس عندك أي مشكلة، وإنسان تكلم، وتحداك بكلام يتناقض مع الدين، وافقه أسلم لك، إذاً النهي يحتاج إلى إرادة قوية، يحتاج إلى تضحية، يحتاج إلى ورع، يحتاج إلى خوف من الله، يحتاج إلى صدق، يحتاج إلى جرأة، يحتاج إلى شجاعة:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾
معنى ذلك أن الناس يتكلمون بالإثم:
 ﴿ عَنْ قَوْلِهِمْ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ ﴾
هناك معاص بالقول، ومعاصٍ باليد، يأكلون مالاً حراماً، هذه مسموح بها، تجد أعلى جهات دينية في بعض الأقطار العربية يفتون بأشد المعاصي حرمةً، وهي الربا، لا شيء عليك لو أودعت مالك في مؤسسة ربوية، وتقاضيت الفائدة على أنها عائدة؟ عوض الفاء عين، ولا شيء عليك، فالمعصية التي قال الله عنها:
﴿ فَإِن ْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
[ سورة البقرة: 279 ]
إذاً هذه المعصية تهدم مجتمعات، لأن المجتمع البشري الله عز وجل شرع له أن يلد المال من الأعمال، وإذا ولد المال من الأعمال توزعت الكتلة النقدية في المجتمع على أكبر شريحة في المجتمع، عندئذٍ لا يكون المال دولة بين الأغنياء منكم.
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾
[ سورة الحشر: 7 ]
 
المال قوام الحياة :
 
إذا سمحنا للمال فقط أن يلد المال عن طريق الربا تجمعت الأموال في أيدٍ قليلة، وحرمت منها الكثرة الكثيرة، وتكاد تكون مشكلات أهل الأرض الآن مجتمعة في أن مليوناً لا يملكون واحداً، وواحد يملك مليوناً، تسعون بالمئة من ثروات الأرض بيد عشرة بالمئة من سكان الأرض، تجد البذخ وإتلاف المال والإنفاق غير المعقول بمجتمعات، وتجد القهر والفقر والحرمان بمجتمعات أخرى.
أنا ذكرت لكم في الأسبوع الماضي أنني زرت بلداً في جنوب إفريقيا، رأيت ما لا يصدق، لا طعام، ولا شراب، ولا كساء، ولا صحة، ولا تعليم، ولا أدوات، ولا شيء، ولا ثياب تستر عوراتهم، ومجتمع آخر ما يأكله الكلاب في هذا المجتمع لا يأكله شعب كبير في آسيا، تسعمئة مليون، هذا التفاوت حينما يلد المالُ المال، تتجمع الأموال في أيد قليلة، وتحرم منها الكثرة الكثيرة، فكل ما يجري في العالم من عنف الآن بشكل أو بآخر يمكن أن يفسر من خلال هذه المقولة، وقد عبر عنها الإمام علي رضي الله عنه: كاد الفقر أن يكون كفراً، والإنسان حينما تعطيه رغيف خبز، وحينما تعطيه كرامته تأخذ منه كل شيء، والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت، والمال قوام الحياة، فإذا كان في مجتمع ما كتلة نقدية ينبغي أن تكون متداولة بين أكبر شريحة من شرائح المجتمع. فحينما تأتي مراتب دينية عالية جداً، وتفتي بأكبر معصية في المجتمع بتغيير كلمات والألفاظ، ماذا نقول؟
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ﴾
كم من إنسان ينقل مقولات لا أصل لها في الدين، عقيدة زائغة، ينقل مقولات تتناقض مع كلام الله عز وجل، ومع كلام رسوله، وتروَّج، وفي محاضرات دينية أحياناً ينقل الذي وكله الله بالدعوة إليه أن ينطق بالباطل، أو أن يسكت عن الحق، أو أن يتغاضى عن أكل مال حرام، قد تدخل إلى معبد لا تجد فيه إلا الغناء والموسيقى، وقد تدخل معبداً ولا تجد امرأة محتشمة إطلاقاً طيب ما الفرق بين الشارع والمعبد؟ لا بد أن يكون هناك فرقاً، لذلك:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾
 
من صفات الداعية أن يكون ورعاً ولا ينافق :
 
أقول لكم أيها الأخوة: أنت حينما تسكت تسلم، لو شاهدت المعاصي على قارعة الطريق، لو أن مسلماً زارته بنت أخيه، وكانت في ثياب فاضحة، فاستقبلها ورحب بها، وسأل عن صحتها، وعن دراستها، وعن مستقبلها، وأثنى عليها، وعلى جمالها، هذا ماذا فعل؟ هذا أعطى المنكر دعماً، عزز المنكر:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾
نريد ما عندنا، دعونا من عند غيرنا، الذي وكله الله بنقل هذا العلم ينبغي أن يكون ورعاً، ينبغي ألا ينافق، ينبغي ألا يقول قولاً يثير حوله جدلاً كبيراً، مثلاً عقد قران يأتي إنسان يلقي كلمة فيثني على هاتين الأسرتين ثناء غير معقول، أنا أذكر مرة أنه عقد قران في مكان عام، والذين تكلموا أثنوا على الأسرتين الدمشقيتين، العريقتين، التقيتين، الورعتين، هذا عقد القران، العرس كان بفندق، وزعت الخمور، وجيء بالراقصات، والنساء شبه عرايا، هاتان الأسرتان العريقتان الدمشقيتان الورعتان التقيتان، أين مكانة العلم؟ انتهت مكانة العلم:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾
المديح بلا طائل، بلا ثمن، بسرعة، من دون تحقق.
(( إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق))
[ أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس رضي الله عنهم ]
إنك إذا مدحته اضطرب الناس، لو إنسان لا يصلي، يشرب الخمر، وقلت لشخص أمامك، أمام أولادك: لبق، لطيف، عنده خبرات عالية بالحياة، فهيم يا أخي، ابنك رآه يشرب الخمر، وهو فهيم، يقترف المعاصي، وهو ذو خبرة عالية بالحياة، اضطرب ابنك.
(( إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق))
[ أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس رضي الله عنهم ]
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾
 
بعض من أسباب هلاك بني إسرائيل :
 
لماذا أكثر الله من الحديث عن أهل الكتاب في القرآن الكريم؟ لأن كل الأمراض التي وقعوا فيها نحن مرشحون أن نقع فيها، وقد وقعنا فيها، ما سبب هلاك بني إسرائيل؟
﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾
[ سورة المائدة: 79]
ما سبب هلاك بني إسرائيل؟
((إِنَّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ تَرَكُوهُ،وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدّ))
[ متفق عليه عن عائشة ]
ما سبب هلاك بني إسرائيل؟
﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾
[ سورة المائدة: 24]
كل واحد جالس مرتاح لا ينتقد، لا يأمر بالمعروف، لا ينهى عن المنكر، يجامل إلى درجة النفاق، مصالحه محققة، ومكانته كبيرة، وحوله هالة كبيرة جداً، لا داعي لأن يغامر بمكانته، مرض:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ﴾
تتكلم كلاماً لا أصل له، تدرس بمدرسة أن الإنسان أصله قرد، أين أصبح آدم وحواء؟ ألغي القرآن بهذه الطريقة، تؤلف موسوعات علمية عن الإنسان الحجري، أي إنسان حجري؟ البشرية بدأت بنبي كريم، بهذه الطريقة ألغيت كل الأديان:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ﴾
 
بعض أمراض المسلمين اليوم :
 
القول لا يتطابق مع الواقع، والواقع القديم من أعلمنا عنه؟ ربنا، الله عز وجل قال:
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
[ سورة الكهف: 51]
حينما تقول: الإنسان بدأ بإنسان حجري متوحش، وكان أصله قرداً، أي أنت كنت وقتها؟ لكنك تردد كالببغاء ما قيل لك، يقول كما تقول الببغاء، ما كنت وقتها أنت، لكنني قد أفاجئكم الآن أنني آمنت أخيراً بهذه النظرية، لكنها معكوسة، كان الإنسان إنساناً فصار قرداً، مسخ إلى قرد، لأنه همه بطنه وفرجه، هذا هو القرد، شكله شكل إنسان، الإنسان حينما ينسى سبب وجوده، وينسى غاية وجوده، وينسى أنه المخلوق المكرم، وأنه خلق ليعرف الله، حينما يصبح همه بطنه وفرجه وشهوته يمسخ قرداً وخنزيراً، القرد همه بطنه والخنزير همه فرجه:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾
أنا أسقط هذه الآية على واقع المسلمين، دعونا من غيرنا، ولنتحدث عن أمراضنا نحن، إذاً ينبغي أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، ينبغي ألا تسكت على خطأ، ينبغي أن تنطق، أنا أروي قصة نموذجية: سائق سيارة على خط دمشق بيروت، ركب معه شاب وشابة، وتمنيا عليه أن ينتظر قليلاً حتى تأتيهم محفظة، انتظر السائق، بعد ربع ساعة جاء رجل كبير في السن بالسبعين، أعطاه المحفظة، فهذا الشاب وكزه على رأسه معنفاً، لمَ تأخرت؟ لم ينتبه السائق، وضع المحفظة وانطلق إلى الشام، بعد ما قطع ثلث المسافة سمع الشابة تقول للشاب: لماذا ضربت أباك؟ وإذ بالسائق يوقف السيارة، قال له: أبوك هذا؟ انزل، هذا المبلغ، بهذه البساطة البالغة. عندما يرتكب إنسان جرماً كبيراً بحق أبيه والجميع صامتون الباطل يتعزز، ومن يقف في وجه المنحرف؟!!
قصة عابرة، لكنها تعبر على أن هذا الإنسان مؤمن، ما ارتضى أن يركب معه إنسان عاق بوالديه.
 
التفسير الأرضي يريح الناس والتفسير السماوي يزعجهم :
 
قال تعالى:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ﴾
أنت في جلسة يقول أحدهم: الآن في أدوية تطيل العمر، أنت ساكت والسكوت راحة لك، عندك في القرآن:
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾
[ سورة الأعراف: 34]
السكوت فيه راحة، مصالحه محققة، ليتكلموا بما يشاؤون، لا، ما وظيفتك؟ وظيفتك أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ﴾
ما يعانيه المسلمون اليوم يفسر تفسيراً أرضيّاً، ما عندنا تقنية عالية، هذا السبب فقط؟ أين الله؟ أين وعود الله للمؤمنين؟ هناك أسباب أكبر، لكن دائماً التفسير الأرضي يريح الناس، والتفسير السماوي يزعجهم.
زلزال، سهل جداً أن تقول: اضطراب بالقشرة الأرضية، وهذا شيء صحيح، التفسير العلمي لا يتناقض مع التفسير التوحيدي، يتكاملان، لما أراد الله أن يؤدب هؤلاء ساق لهم هذه المصيبة، أما هذه فأساسها اضطراب بالقشرة الأرضية، فكلما أردت أن تصف حال المسلمين اليوم بتخلفهم علمياً وتقنياً، وهذا شيء لا يكفي، الله وعد المؤمنين:
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
[ سورة الروم: 47]
 
ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة :
 
تسمع أحياناً أطروحات غير صحيحة، وغير مقبولة، أو الحل أن نكون مع الأقوياء، وأن نبطح أمامهم، هذا حل أيضاً، عالم يجلس بمجلس ويتكلم كلاماً كهذا؟!
والله أنا كنت في سفر، وفي جلسة طرحت فيها ما تعانيه الأمة الإسلامية من ضغوط، ومن قهر، ومن قتل، ومن تدمير، ومن تحديات، الأشياء الآن لا تحتمل، فالجو العام هبط، المعنويات هبطت إلى أدنى مستوى، فبعد أن انتهت الجلسة قلت لهم: اسمحوا لي بكلمة فيها إضاءة قرآنية لما نعانيه نحن اليوم من أزمات، قلت لهم: إنما يعانيه المسلمون اليوم من أزمات ما هي إلا رسالة من الله للمسلمين كي يغيروا ما في أنفسهم حتى يغير الله ما بهم، رسالة من الله، وأن جهة قوية في الأرض إذا خططت أن تبني مجدها على أنقاض الآخرين، وأن تبني حياتها على موتهم، على إبادتهم، الآن حرب إبادة، أن تبني عزها على ذلهم، أن تبني غناها على فقرهم، أن تبني أمنها على خوفهم، وأن تنجح الخطط على المدى البعيد فنجاح هذه الخطط على المدى البعيد لا يتناقض مع عدل الله فحسب بل مع وجوده، الله موجود.
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾
[ سورة الزخرف: 84]
أكثر الجلسات الآن محصلة الجلسة معنويات هابطة، إحباط شديد، وكأن الله غير موجود، أعطى هؤلاء القوة يفتكون بالناس ويذلونهم، ويهدمون البيوت، ويقصفون الآمنين كما ترون وتسمعون. لذلك أي معالجة لقضية مما نعانيها ينبغي ألا تبتعد عن التوحيد، لكن أنا لست مكلفاً أن أفهم حكمة الله فهماً مطلقاً بل فهماً نسبياً، وإذا قلت لي: لماذا يدع الله هؤلاء يفعلون ما يريدون، قد لا أملك أنا الجواب لكنني أملك القرآن، ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة. أملك أن أقول لهم:
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾
[ سورة الشورى: 30]
 
من أسباب هزيمة المسلمين أنهم يفتقرون إلى شروط النصر :
 
أملك أن أقول لهم: هان أمر الله علينا فهنا على الله، أملك أن أقول: إننا نفتقر إلى شروط النصر، رسول الله سيد الخلق، وحبيب الحق، ومعه نخبة الخلق:
((إن الله اختارنيواختار لي أصحابي))
[ رواه الطبراني عن عوير بن سعادة ]
ولم ينتصروا في أُحد لأنهم عصوا رسولهم، لو أن الله نصرهم لسقطت طاعة رسول الله، ولم ينتصروا في حنين لأنهم أشركوا:
((لن نغلب من قلة ))
[ أخرجه البيهقي عن أبي داود ]
فلو انتصروا لسقط التوحيد، نبي كريم معه أصحاب كرام، ولمعصية واحدة لم ينتصروا، إذا كان مليون شرك ومليون معصية لماذا لم ننتصر؟ مليون قضية شركية، ومليون قضية فيها مخالفة لمنهج الله، يجب أن تطرح الحق، معنا كلام الله، معنا سنة رسول الله، أما أن تجلس في مكان تُطرح قضايا خلاف القرآن وتسكت، وتهز رأسك بالإيجاب وتجامل، هذه الفكرة سرت بين الناس، وأفسدت عقائدهم:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ﴾
هذا القول يبعدك عن الله عز وجل، بل يقربك من أعداء الله، الخلاص في أن نستسلم؟ الخلاص في أن ننبطح؟ الخلاص في أن نعطيهم ما يريدون؟ الخلاص أن نواليهم أو يأس وقهر؟ انتهينا، إما حل استسلامي مهين أو يأس قاتل؟ هذا الذي يطرح بالمجالس الآن، تجد عالماً يجامل، أنت معك كلام الله، معك كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ﴾
دخول لا تعد ولا تحصى مشبوهة بالحرام، وأن العبد يقول: يا رب، ويا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له.
 
أكل السحت أن تعتدي على كسب الآخرين :
 
أكل السحت أن تعتدي على كسب الآخرين. إنسان زرع أرضاً، وجمع الغلال، وباعها بالسوق، وقبض ثمنها، تعب سنة، جاء إنسان سرق منه هذا المال، هذا اسمه سحت، لماذا هو سحت؟ لأنه أخذ الكسب بغير الحق، أي دخل حرام هو سحت، إن غششت أخذت ثمن سلعة جيدة والسلعة غير جيدة، فهو سحت، إن كذبت، إن احتلت، إن دلست، إن احتكرت، أي كسب حرام، هو أخذ ما ليس لك أن تأخذه، هذا أكل سحت:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
لكن شيء يلفت النظر أن الله عز وجل في الآية السابقة يقول:
 ﴿ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ ﴾
كثيراً منهم، أي عامة أهل الكتاب:
﴿ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
 أما الأحبار والربان:
﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
 
الفرق بين يصنعون و يعملون :
 
فرق كبير بين يصنع ويعمل، أي إنسان تمزق ثوبه، معه إبرة خياط وخيط فحاكه، هذا يسمى خائطاً، لا يسمى خياطاً، لأنه لا يصنع الألبسة، أما الذي حرفته صنع الألبسة يقال له: خياط، الإنسان العادي يخطئ، نقول:
 ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
أما إنسان يعلم، ويفتي بخلاف ما يعلم، ويفتي إرضاءً لزيد وخوفاً من عبيد، هذا يصنع الباطل، الأول ارتكب الباطل، أما الثاني فيصنع الباطل:
﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
أيها الأخوة، هناك من يدعو إلى ذاته بدعوة مغلفة بدعوة إلى الله، وهناك من يدعو إلى الله مخلصاً، ونسأل الله جل جلاله أن نكون من المخلصين جميعاً، كل مؤمن داعية، شئت أم أبيت، صدقت صدقك دعوة، تعففت عفتك دعوة، كنت أميناً أمانتك دعوة، كنت حليماً حلمك دعوة.
حدثني أخ قال لي: أريد أن أركب مركبة من حلب إلى أحد أقضيتها، فالتقى بسائق قال له: أنا لا أذهب إلى هناك، ألح عليه، قال له: أبداً لا أذهب، سأله: لمَ؟ فلما ألح عليه قال له: ركب معي إنسان له زي ديني، فلما أوصلته إلى بغيته، قال لي: ارجع، ولا تأخذ أي أجرة، وإلا كلفت من يضربك، فهذا أخذ قراراً ألاّ يركب معه إنسان له زي ديني إطلاقاً، فقال له هذا الشيخ الوقور: كم كنت تتوقع أن تأخذ أجرة هذه الرحلة، أو هذا الطلب؟ قال له: أربعين ليرة، قال: أعطيك أربعين عن الأول، وأربعين عني، وعشرين إكرامية، تسامحنا؟ انظر إلى إنسان سبب لواحد كراهية للدين ولرجال الدين، وإنسان آخر قال له: أنا أعتذر عنه، أدفع المبلغ أنا، وفوقه إكرامية بعشرين ليرة، فرق كبير جداً بين من يحبب الناس بالدين، وبين من يبغض الناس بالدين.
(( يا رب، أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إلي تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا رب إنك تعلم إني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي ))
[ ورد في الأثر ]
 
تناقض الطبع مع التكليف هو ثمن الجنة :
 
إذاً الدعوة إلى الله خالصة من لوازمها الإتباع، من لوازمها التعاون لا التنافس، من لوازمها الاعتراف بفضل الآخرين، أما الدعوة إلى الذات المغلفة بدعوة إلى الله من لوازمها الابتداع، أن تأتي بشيء ما جاء به القرآن، ولم تأت به سنة النبي العدنان، ومن لوازم الدعوة إلى الذات المغلفة بدعوة إلى الله فضلاً عن الابتداع التنافس لا التعاون، مشكلة المسلمين التنافس، جميع المسلمين مستهدفون، وبأسهم بينهم، تجد الطرف الآخر الحروب طاحنة خلال مئتي سنة، الآن ينطق عنهم إنسان واحد، وأموالهم تنتقل فيما بينهم من دون قيد أو شرط، يتعاونون تعاوناً لا حدود له، أيليق بالمؤمنين المسلمين أن يكون بأسهم بينهم؟ وألا تعجب من هؤلاء الذين لا حق معهم يتعاونون من أجل مصالحهم؟
إذاً التعاون من صفات المؤمنين، ويا أيها الأخوة، كتعليق سريع، الإنسان كما كنت أقول دائماً: له طبع، ومعه تكليف، ولحكمة أرادها الله عز وجل الطبع يتناقض مع التكليف، فإذا كان من لوازم الطبع أن تأخذ المال، فمن بديهيات التكليف أن تنفقه، وإذا كان من لوازم الطبع أن تملأ عيناك من محاسن النساء، فمن لوازم التكليف أن تغض البصر، وإذا كان من لوازم الطبع أن تبقى نائماً حتى ترتاح، فمن لوازم التكليف أن تستيقظ، وإذا كان من لوازم الطبع أن تخوض في فضائح الآخرين، فمن لوازم التكليف أن تصمت، ومن طبع الإنسان أنه فردي، والتكليف تعاوني، فأنت تتعاون مع الآخرين بقدر طاعتك لله وتتنافس معهم بقدر بعدك عن الله، فحيثما وجدت أناس متخاصمين متباغضين متناحرين بأسهم بينهم، فاعلم أنهم بعيدون عن الله عز وجل، وأوضح ما يقال الآن: ما تواد اثنين في الله ففرق بينهما إلا بذنب أصابه أحدهما؛ على مستوى فردي، على مستوى جماعي:
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
[ سورة المائدة: 14]
أما المؤمنون فمتعاونون، بعضهم لبعض نصحة متوادون ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون ولو اقتربت منازلهم، إذاً الله عز وجل يأمرنا بالتعاون، والطبع تناقضه مع التكليف هو ثمن الجنة.
 
التواصي بالحق ربع النجاة وأحد أركانها :
 
أيها الأخوة، لا بد من أن أختم هذا الموضوع المتعلق بالدعوة والدعاة، بأن الدعوة إلى الله فرض على كل مسلم، أعيد وأكرر: الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، بدليل قول الله عز وجل:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
[ سورة العصر: 1-3]
التواصي بالحق ربع النجاة وأحد أركان النجاة، إذاً هي فرض عين، الدليل الآخر:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
[ سورة يوسف: 108 ]
فإن لم تدع إلى الله على بصيرة فأنت لا تتبع رسول الله، والذي لا يتبع النبي لا يحب الله.
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
[ سورة آل عمران: 31]
 
التطبيق والإخلاص يقوِّيان الإسلام وهما ما نحتاجه هذه الأيام :
 
لكن الدعوة إلى الله كفرض عين في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، وأقول لكم أيها الأخوة: أنت حينما تطبق ما تقول، وتخلص فيما تقول يهبك الله قوة تأثير لا حدود لها، حينما تطبق ما تقول، وتخلص فيما تقول، التطبيق والإخلاص يقوِّيان، والآن الإسلام يحتاج إلى تطبيق، لا يحتاج إلى كتاب يتحدث عن الإسلام، هناك كتب تتحدث عن الإسلام لا تعد ولا تحصى، لكن الناس يحتاجون إلى مسلم يرونه بأعينهم، يتحرك أمامهم، إن تكلم فهو صادق، وإن عاملك فهو أمين، وإن استثيرت شهوته فهو عفيف، لذلك أنت داعية شئت أم أبيت، أنت داعية ولو كنت صامتاً، وقد يكون الصامت أبلغ في دعوته من الناطق، هناك دعوة صامتة أساسها أخلاق الإسلام، وهناك دعوة ناطقة أساسها الفصاحة والبيان.
ذكرت قصة قبل فترة ذكرتها مرات عديدة، وذكرتها في سفرتي هذه عن هذا الإمام الذي كان بلندن، ونقل إلى ظاهر لندن، واضطر أن يركب مركبة كل يوم، وأن يلتقي مع السائق كل يوم، في أحد المرات أعطى السائق ورقة نقدية كبيرة، ورد له البقية، عدها فإذا هي تزيد عشرين سنتاً عما يستحقه، لأنه مسلم، ولأنه ورع، ولأنه تقي، ونقي، ويحب الحق، ولا يقبل أن يأكل مالاً حراماً، قال: ينبغي أن نعيد المبلغ إلى السائق، جاءه خاطر أن الشركة عملاقة، ودخلها فلكي، والمبلغ زهيد جداً، وأنا بحاجة له، ولعل هذا المبلغ هبة من الله ساقه لي، خاطر غير صحيح، شيطاني، لكن الذي حصل أنه قبيل أن ينزل من المركبة دون أن يشعر مد يده إلى جيبه، وأعطى السائق العشرين سنتاً، قال له: هذه زيادة، فقال له السائق: ألست إمام هذا المسجد؟ قال: بلى، قال: والله حدثت نفسي قبل يومين أن أزورك في هذا المسجد لأتعبد الله، ولكنني أردت أن أمتحنك، قال: يا رب كدت أبيع الإسلام بعشرين سنتاً.
أنت حينما تصدق أنت أكبر داعية، وحينما تتقن عملك أنت أكبر داعية، وحينما لا تغش الناس أنت أكبر داعية، وحينما تكون أميناً أنت أكبر داعية، نحن الآن بحاجة إلى مسلم متحرك، نراه بأعيننا، الكتب لا تؤثر الآن، الذي يؤثر إنسان متحرك، كيف أن القرآن كون ناطق، وكيف أن الكون قرآن صامت، وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، الآن المسلمون في أشد الحاجة إلى مسلم مطبق يرونه رأي العين.
 
الأمانة والصدق والنصح والإتقان هو ما يعيد للمسلمين مصداقيتهم :
 
قلت لكم مرةً: إنسان محسن في هذه البلدة أراد أن ينشئ مسجداً لوجه الله تعالى في منطقة ليس فيها مسجد إطلاقاً، كلف أحد أخواننا الكرام، هذا الأخ وجد أرضاً مناسبة جداً، وسعرها مناسب جداً فبلغ المحسن، فجاء المحسن ليرى الأرض، وليدفع الدفعة الأولى، الأرض مناسبة، مساحتها مناسبة، شكلها مناسب، سعرها مناسب، فالمحسن الكبير وقع شيكاً لصاحب الأرض بنصف ثمن الأرض، صاحب الأرض مستخدَم في مدرسة، راتبه أربعة آلاف ليرة، عنده ثمانية أولاد، فقير جداً، هذه الأرض ورثها قبل شهر، وثمنها أربعة ملايين تقريباً، وسطر له شيكاً بملونين، فقال صاحب الأرض للمحسن: أين بقية الثمن؟ قال له عند التنازل، قال له: التنازل لمن؟ قال له: للأوقاف، قال: لماذا للأوقاف؟ قال له: هذه سوف تكون مسجداً، قال له: مسجد! أمسك بالشيك ومزقه، قال له: والله، إني أستحي من الله أن أبيع أرضاً تكون مسجداً، أنا أولى منك أن أقدمها إلى الله، يقول هذا المحسن: والآن مريض شفاه الله، يقول: والله ما صغرت في حياتي كما صغرت أمام هذا الإنسان، أي إذا كان معه مئتا مليون ودفع مليوناً لن يحصل شيء، أما هذا راتبه أربعة آلاف، وعنده ثمانية أولاد، لا يملك من الدنيا إلا ثمن هذه الأرض، استحيا من الله أن يبيعها كي تكون مسجداً. الآن الذي يهز الناس موقف أخلاقي، أمانة، صدق، حلم، إتقان عمل، نصح، فهذا الذي يعيد للمسلمين مصداقيتهم.
الحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب