سورة العنكبوت (029)
الدرس (12)
تفسير الآية (45)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلامعلى سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني عشر من سورة العنكبوت ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾
[ سورة العنكبوت ]
أهمية الصلاة في الإسلام :
هذه الآية ذات أهمية كبيرة جداً ، لأن الصلاة عماد الدين ، من أقامها فقد أقام الدين ، ومنهدمها فقد هدم الدين ، ولا خير في دين لا صلاة فيه ، إنها عماد الدين ، وعصام اليقين ، وغرة الطاعات ، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات . الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ ﴾ .
[ سورة العنكبوت ]
الإنسان مخلوق ، وأسماء الله الحسنى تقتضي أن يرشده الله ، أن يعرفه ، أن يأمره ، أن ينهاه ، أن يبين له ، أين كان ، وما مهمته في الدنيا ، وإلى أين المصير ؟ وما قيمة الدنيا ، وما سر وجوده فيها ؟ وما أفضل شيء يفعله فيها ؟ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ونوره خلق الكون وأنزل هذا الكتاب .
الأمر الموجَّه إلى النبي عليه الصلاة والسّلام ثلاثة أنواع :
إذاً : الله سبحانه وتعالى يأمر الناس من خلال أمره للنبي عليه الصلاة والسلام ، والأمر الموجه إلى النبي على أنواع ثلاثة :
1 – الأمر الخاص بالنبي :
نوع موجه إلى النبي خاصةً ، وهذا ما اتفق عليه العلماء على أنه من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام .
2 – الأمر الموجَّه إلى المؤمنين من خلال النبي :
وأمر موجه إلى المؤمنين من خلال أمر النبي ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾
[ سورة الأحزاب ]
لا يوجد في الكون إنسان أشد تقوىً لله من النبي ، إذاً : هذا الأمر موجه إلى المؤمنين من خلال أمر النبي .
3 – الأمر الموجَّه إلى النبي والمؤمنين معًا :
وأمر موجه إلى المؤمنين والنبي معاً ، فحينما يقول الله عز وجل يخاطب رسول الله عليه وسلم :
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ ﴾ .
إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، إذا كان هذا الأمر موجهاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فهو موجه استناداً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ... )) .
[ مسلم عن أبي هريرة ]
الأمر بتلاوة القرآن :
هذا الأمر موجه إلينا ، إذاً أنت مأمور أن تتلو هذا الكتاب ، لأن فيه تعريفاً لحقائق الكون والحياة وحقيقة الإنسان ، هذا الكتاب تعليمات الصانع ، هذا الكتاب نشرة إيضاحية لسر وجودك في الدنيا .
إذاً : أيها المؤمن ، عليك أن تتلو هذا القرآن ، لأنه خطاب خالق الأكوان لهذا الإنسان ، شيء عجيب جداً أن يعرض الإنسان عن تلاوة القرآن قبل أن يفهم مضمونه ، هل تصدق أن إنساناً جاءته رسالة لم يفتحها ، ولم يقرأها ، بل نبذها ، المنطق يقول : اقرأ ما في الرسالة ، إن أعجبتك فخذ بها ، وإن لم يكن كذلك فانبذها ، أما أن تنبذها قبل أن تقرأها ، قبل أن تقف على حقائقها ، قبل أن تعرف مرسلها ، قبل أن تعرف سرها ، حكمتها ، فهذا موقف فيه غباء شديد .
أنت إنسان خاطبك الله سبحانه وتعالى بهذا القرآن :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾
[ سورة البقرة : آية " 21 " ]
يا أيها الذين آمنوا ، افعل لا تفعل ، أعطاك أمرا ، أعطاك نهياً ، ووعد وأوعد ، بيَّن و فصّل ، وذكّر الماضي والحاضر والمستقبل ، إذاً : نحن المؤمنين مأمورون أن نتلو هذا الكتاب من خلال أمر الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يتلو ما أوحي إليه .
يجب أن نتلوه كي نعرف الله عز وجل ، فإذا عرفناه فلابد من حركة ، لابد من موقف ، لابد من توجه ، لابد من اتجاه إلى الله عز وجل .
أنت أولاً :تعرفه ، وثانياً : تتصل به ، أولاً : تعرفه ، وثانياً : تطيعه ، تعرفه ، تتقرب إليه ، تعرفه تسعد بقربه .
الآية منطقية :
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ﴾ .
لو تذوقنا معنى ﴿ وَأَقِمْ الصَّلاةَ ﴾ ، إذا قلت : سأقيم بناءً في هذا المكان ، كلمة أقيم بناءً كلكم يعلم ماذا تعني هذه الكلمة ؟ إقامة البناء تحتاج إلى شراء أرض ، تحتاج إلى رخصة ، تحتاج إلى حفر أساسات ، تحتاج إلى مواد أولية ، تحتاج إلى منفذين ، تحتاج إلى صنعة ، تحتاج إلى وقت ، تحتاج إلى نضج ، تحتاج إلى عوامل معينة ، كسوة خارجية وكسوة داخلية ، فكلمة : أقم بناءً في هذا المكان تعني عملاً جاداً ، عملاً كبيراً ، عملاً هادفاً ، عملاً ذا مراحل ، الله عز وجل يقول : ﴿ وَأَقِمْ الصَّلاةَ ﴾ ، فلابد من أن تصلي ، ولابد من أن تحدث مع الله صلة ، ولابد من حسن علاقة مع الله عز وجل حتى تكون هذه الصلة .
منزلة الصلاة في الإسلام :
1 – في الصلاة معاني العبادات الأخرى :
يا أيها الإخوة الأكارم ، الصلاة كلها سر الدين ، الصلاة وحدها ، لا تنسى أن في الصلاة معنى الحج ، وفي الصلاة معنى الصيام ، وفي الصلاة معنى الزكاة ، وفي الصلاة معنى الاتصال بالله عز وجل ، توجهك إلى بيت الله الحرام أخذت الصلاة من الحج ، التوجه نحو الكعبة ، وأخذت الصلاة من الصيام ، وأنت في الصلاة ممتنع عن الطعام والشراب ، وكل حركة خارجة عن حركات الصلاة ، وأخذت من الزكاة أن الوقت هو أصل المال ، فإذا أنفقت الوقت في سبيل الله صليت الظهر فرضاً وسنةً ، فكأنما أنفقت مالك ، لأن الوقت أصل المال ، ولن تحصّل المال إلا بالوقت ، وأخذت من الاتصال بالله جوهر هذه الصلة ، الصلاة عماد الدين ، من أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين ، ولا خير في دين لا صلاة فيه .
2 – الصلاة هو الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقط بحالٍ :
الشيء الثاني : هو أن الصلاة هي الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقط بحال ، لا في سفر ولا في حضر ، ولا في صحة ، ولا في مرض ، ولا في قتال ، ولا في خوف ، ولا في شبع ، ولا في جوع ، الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقط بحال ، إنها الصلاة ، الصيام يسقط عند السفر ، وعند المرض ، والحج يسقط عند عدم الاستطاعة ، والزكاة تسقط عند الفقر ، ولكن الصلاة هي الفرض المتكرر ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾
[ سورة طه ]
3 – الصلاة ذِكرٌ :
أقِمها من أجل الذكر ، أقمها من أجل أن تذكرني ، ذكر الله هو جوهر الصلاة ، وفي آية أخرى يقول الله عز وجل :
﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾
[ سورة العلق ]
4 – الصلاة قُربٌ :
الصلاة إذاً حالة قرب من الله عز وجل ، والصلاة حالة ذكر ، والصلاة حالة قرب ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
[ سورة النساء ]
الصلاة حالةوعي ، حالة قرب ، وحالة ذكر ، وحالة وعي .
2 – الصلاة حالةٌ أخلاقية :
يقول الله عز وجل :
﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ .
[ سورة العنكبوت ]
إذاً الصلاة حالة أخلاقية ، مستحيل أن يجتمع في الإنسان منكر أو فحشاء وهو يصلي ، مادمت متصلاً بالله فأنت طاهر ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً )) .
[ الجامع الصغير عن ابن عباس بسند ضعيف ]
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ¯الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾
[ سورة المؤمنون ]
قال بعض العلماء : الخشوع ليس من فضائل الصلاة ، بل من فرائضها ، لعظم الصلاة في الإسلام الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾
[ سورة طه ]
يعني من صلى في البيت فعليه أن يصلي مع أهله ، إذا صلى مع أهله ، وضمن صلاتهم فكأنما نفذ هذه الآية الكريمة .
والصلاة أيها الإخوة ، لا تعني أن تصلي خمس مرات ، وأن تشرد بين الصلوات كما يشرد البعير عن صاحبه ، قال تعالى :
﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾
[ سورة المعارج ]
﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾
(سورة البقرة )
وفي بعض تفسيرات هذه الآية بين الصلاتين لتكون ملتفتاً إلى الله عز وجل .
تاركُ الصلاة فيه ضعفٌ خُلُقي : إنه الهلع والجزع والمنع :
يجب أن تعلم علم اليقين أن كل إنسان لا يصلي فيه ضعف خلقي ، من هذا الضعف قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ¯إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً﴾
[ سورة المعارج ]
ما أن يلمح شبح مشكلة ، أو شبح مصيبة ، أو يلمح نازلةً ، أو رزيةً ، أو مرضاً حتى تنهار قواه ، من هو الهلوع ؟ إذا مسه الشر جزوع ، وإذا مسه الخير منوع ، جزوع على وزن فعول ، صيغة مبالغة ، يعني كثير الجزع ، وكثير الهلع ، وكثير المنع ، جزوع ومنوع ، قال تعالى :
﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
[ سورة المعارج ]
إلى آخر الآيات ، هؤلاء مستثنون من هذا الضعف الخُلقي .
إن الإنسان خلق هلوعا ، فلولا الصلاة لكان هلوعاً جزوعا منوعاً ، أما المصلي فاستثناه الله من هذا الضعف الخلقي .
ضعف المسلمين وذلهم بسبب ترك الصلاة والتهاون فيها :
شيء آخر ، هل تصدقون أن كل ما تعانيه الأمة الإسلامية من مصائب ، ومن رزايا ، ومن مشكلات ، ومن ضعف ، ومن تفكك ، ومن و من ، إلى ما لا نهاية بسبب تركهم الصلاة أو تهاونهم فيها ، قال تعالى :
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾
[ سورة مريم ]
أضاعوا الصلاة ، فاتبعوا الشهوات ، أو اتبعوا الشهوات لأنهم أضاعوا الصلاة ، بين إضاعة الصلاة ، واتباع الشهوات علاقة ترابطية أضاعوا الصلاة فاتبعوا الشهوات ، اتبعوا الشهوات فأضاعوا الصلاة ، فسوف يلقون غيا ، ولقد لقي المسلمون ما لقوا بعد أن أضاعوا الصلاة ، وليست إضاعة الصلاة تركها ، يا ليت ، ولكن إضاعة الصلاة ترك موجباتها .
مِن موجبات الصلاة :
ـ من موجبات الصلاة الاستقامة على أمر الله .
ـ من موجبات الصلاة تحرير الدخل .
ـ من موجبات الصلاة إنفاق المال في وجوهه .
ـ من موجبات الصلاة ضبط الجوارح ، وغض البصر .
ـ من موجبات الصلاة الكف عن سماع ما لا يرضي الله عز وجل ، إذا ضبطت جوارحك كلها وحررت دخلك ، ونفذت كل الأوامر التعاملية فيما بينك وبين نفسك ، وفي ما بينك وبين الناس عندئذٍ تشعر بطعم الصلاة ، وتذوق حلاوة الإيمان ، وتشعر بطعم القرب ، قال تعالى :
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾
[ سورة مريم ]
من خصائص الصلاة :
1 – الصلاة عقلٌ :
النبي عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق هو حبيب رب العالمين ، سيد ولد آدم، هو المبلغ عن الله عز وجل يقول :
(( ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها )) .
[ ورد في الأثر ]
2 – الصلاة ميزان :
ليس لك من هذه الصلاة إلا ما عقلت منها ، ويقول عليه الصلاة والسلام :
((الصلاة ميزان )) .
[ الجامع الصغير عن ابن عباس بسند فيه ضعف ]
ميزان لأعمالك إذا فعلت هذا العمل ، إن كنت تستطيع أن تصلي بعده صلاةً صحيحة تقبل بها على الله عز وجل ، فهذا دليل أن هذا العمل صحيح ، أما إذا أوقعك هذا العمل في حالة خجل ، وصار هذا العمل حجاباً بينك وبين الله عز وجل هذا دليل أن صلاتك ، وأن هذا العمل لا يرضي الله عز وجل :
))الصلاة ميزان ، فمن وفى استوفى )) .
[ الجامع الصغير عن ابن عباس بسند فيه ضعف ]
منوفى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمارها ، الصلاة ميزان فمن وفى استوفى ، وفِّها حقها تستوفِ ثمراتها ، وفِّها حقها تستوفِ ما أعد الله للمصلين من نعيم مقيم .
3 – الصلاة موعدٌ مع الله :
شيء آخر ، النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حضرته الصلاة فكأنه لا يعرفنا ، ولا نعرفه لعظم هذا اللقاء أنت على موعد مع الله عز وجل ، أنت على موعد مع خالق الكون وجعلت قرة عيني في الصلاة ، إذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه إطلاقاً .
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ ، قَالَ مِسْعَرٌ : أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ : لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( يَا بِلالُ ، أَقِمِ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا )) .
[أحمد]
ولسان حال بعض المصلين : أرحنا منها ، صليت ؟ نعم ، الحمد لله ، ارتحنا أننا صلينا ، يجب أن ترتاح في الصلاة ، لا أن ترتاح منها .
4 – الصلاة مناجاة :
شيء آخر ، لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل ، راقب نفسك وأنت عند عظيم في مكتبههل تعبث بسبحة ؟ هل تقرأ جريدة ؟ هل تقرأ مجلةً ؟ هل تنظر إلى السقف أو إلى قطع الأثاث ، أو إلى بعض الأشياء ؟ هل تخرج دفتراً تتلهى به ؟ أما إذا كنت عند إنسان تظنه عظيماً كلك التفات إليه ، كلك توجه نحوه ، تجلس في غاية الأدب ، في غاية الإصغاء ، في غاية الاهتمام ، إذا كنت مع من تظنه عظيماً هكذا ، فكيف إذا كنت مع ملك الملوك ، ومالك الملوك ؟ لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:
((لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل )) .
[ الجامع الصغير عن الحسن مرسلا بسند ضعيف ]
لا يلتفت لشيء آخر لو يعلم من يناجي .
5 – الصلاة نورٌ :
و النبي عليه الصلاة و السلام يقول :
(( الصَّلاةُ نُورٌ )) .
[ الترمذي عن أبي مالك الأشعري ]
إذا صليت صلاة كما أراد الله ، إذا صليت الصلاة التي أمر بها رسول الله ، إذا صليت الصلاة التي وصفت في القرآن الكريم ألقى الله في قلبك نوراً فرّقت به بين الحق و الباطل ، رأيت الخير خيراً ، والشر شراً ، هل تصدقون أن كل المآسي التي يعانيها الإنسان هي بسبب خطأ في رؤيته ، يرى أن كسب هذا المال مغنماً كبيراً يكسبه حراماً فيذيقه الله ألوان العقاب ، ألوان العقاب سببها كسب هذا المال ، و كسب هذا المال سببه خطأ في الرؤية .
إذاً أعمالك كلها أيها الأخ الكبير أساسها رؤية ، إما أن تكون هذه الرؤيا صحيحة ، وإما أن تكون غير صحيحةً ، إن كانت صحيحةً وفقت وسعدت ، وإن لم تكن صحيحة دفعت الثمن باهظاً ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( الصَّلاةُ نُورٌ )) .
نور يقذفه الله في قلبك ، ولا يعرف هذه المعاني إلا من اتصل قلبه بالله عز وجل ، إلا من شعر أن الله جل في علاه مع كل مؤمن وإذا تجلى على المؤمن أسعده سعادة لا توصف،(( الصَّلاةُ نُورٌ )) .
وقال عليه الصلاة والسلام :
(( الصلاة طهور )) .
[ ورد في الأثر ]
إنّ المصلي إذاً كان طاهراً من الحسد ، طاهراً من الغش ، طاهراً من الكبر طاهراً من البعد عن الله ، طاهراً من الأثرة ، طاهراً من الحقد ، طاهراً من الضغينة ، طاهراً من الكبر ، أبداً الصلاة طهور ، الصلاة نور والصلاة حضور ، أرحنا بها يا بلال ، ولو يعلم المصلي من يناجي ما التفت ، أو ما انفتل كما ورد في الحديث .
6 – الصلاة معراج المؤمن :
والصلاة معراج المؤمن إلى رب السماوات ، وليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها ، والصلاة ميزان فمن وفى استوفى ، والصلاة قرب ، قال تعالى :
﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾
[ سورة العلق ]
7 – الصلاة ذِكرٌ :
والصلاة ذكر ، قال تعالى :
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾
[ سورة طه ]
8 – الصلاة وعيٌ :
والصلاة وعيٌ ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
[ سورة النساء ]
هذا الذي لا يعلم ما يقال حكمه حكم السكران ، الذي يصلي ، ولا يعلم ما قال في الصلاة ، ولا يقف على مدلولات الآيات في الصلاة حكمه حكم السكران في الصلاة ، وكل مصائب المسلمين منطوية في قوله تعالى :
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾
[ سورة مريم ]
نصيحة للآباء :
والآباء الذين يحرصون حرصاً لا حدود له على تقدم أبنائهم في الدراسة ، وعلى مذاكراتهم ، وعلى علاماتهم في المذاكرات ، يعطونهم الجوائز إذا تفوقوا ، ويعنفونهم إذا قصروا ، ويهملون أمرهم بالصلاة فهم مخالفون بهذا الأمر قول الله عز وجل :
﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾
[ سورة طه ]
أين هم من كتابهم ، من تطبيق دينهم ؟ وقوله تعالى :
﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾
[ سورة البقرة ]
لابد من أن يكون لك صلة بين الصلاتين ، وهذا مضمون قول الله عز وجل :
﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾
[ سورة المعارج ]
عموم معنى : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
أيها الإخوة الأكارم ... آية اليوم :
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ ﴾ .
[ سورة العنكبوت ]
غض البصرمن إقامة الصلاة ، ضبط اللسان من إقامة الصلاة تغتاب المسلمين وتزعم أنك مسلم ؟! ما قيمة هذه الصلاة ؟ قم وصلِّ إنك لم تصلِّ ، من إقامة الصلاة ضبط اللسان ، من إقامة الصلاة ضبط العين ، من إقامة اللسان ضبط الأذن عن سماع ما لا يرضي الله عز وجل .
(( من استمع إلى صوت قينة ـ أي مغنية ـ صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ، قيل : وما الآنك ؟ قال : الرصاص المذاب )) .
[ الجامع الصغير عن أنس بسند فيه ضعف ]
ضبط اللسان عن الغيبة والنميمة ، والسخرية ، والاحتقار ، والبهتان ، والإيقاع بين المسلمين ، والتحريش بين المؤمنين ، ضبط العين عن عورات المسلمين ، ضبط الأذن عن استماع الغناء ، ضبط الفكر عن خواطر لا ترضي الله عز وجل ، ضبط اليد عن أن تبطش ضبط الرجل عن أن تسعى إلى ما لا يرضي الله عز وجل ، هذا كله من إقامة الصلاة ، تحرير الدخل من إقامة الصلاة ، التواضع من إقامة الصلاة ، الزهد من إقامة الصلاة ، أقم الصلاة ، يعني افعل أفعالاً كثيرةً جداً كلها حول محور واحد ، وهو حسن العلاقة مع الله ، حتى إذا وقفت لتصلي رأيت الطريق سالكاً إلى الله ، هذه معنى : ﴿ وَأَقِمْ الصَّلاةَ ﴾ .
قد نفهم هذا الأمر فهماً ساذجاً جداً ، أخي أقم الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، هذا من إقامة الصلاة ، أما إقامة الصلاة التي أرادها الله عز وجل بضبط كل جوارحك ، وضبط كل حركاتك وسكناتك ، وعلاقاتك وفق منهج الله عز وجل ، ما من شعور يشعره المصلي ، وقد وقف بين يدي الله عز وجل من أنه على منهج ربه ، مطيع لله عز وجل في كل شؤون حياته ، هذا الشعور هو الذي يعينك على الصلاة ، شعورك أنك على طاعة الله ، وفق منهج الله ، وفق أمر الله هذا الشعور الذي يعين على الصلاة .
أقمِ الصلاة كما أرادها الله :
إذاً هذا معنى قول الله عز وجل :
﴿ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ .
[ سورة العنكبوت ]
هذه الألف واللام في الصلاة ماذا تعرب؟ يعني إن الصلاة المعهودة ، إن الصلاة التي أرادها الله عز وجل ، إن الصلاة التي تنجو بها ، إن الصلاة التي تجعلك على صلة مع الله حقيقية هذه الصلاة ، لماذا قال الله عز وجل :
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾
[ سورة التوبة ]
معنى هذا أن هناك صلاة ما أرادها الله ، كذب وصلاة ، غش وصلاة،احتيال وصلاة ، ظلم وصلاة ، كبر وصلاة ، هذه الصلاة التي معها الكبر ، والغش ، والحسد ، والضغينة ، والحقد والاستعلاء ، وكسب المال الحرام ، هذه ليست صلاة .
هل عرفتَ أيها المصلي بين يدي مَن تقف ؟!
ورد في الحديث القدسي:
(( ليس كل مصلٍ يصلي ، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي )) .
هل عرفت منتصلي له ؟ هل عرفت من تقف بين يديه ، هل عرفت من تقول بحقه : الله أكبر ، سمع الله لمن حمده ، هل عرفت من تقول له : سبحان ربي العظيم ، سبحان ربي الأعلى .
(( ليس كل مصلٍ يصلي ، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكف شهواته عن محارمي ـ استقامة ، تعظيم ـ ولم يصر على معصيتي ... )) .
توبة تلو توبةٍ كلما وقعت في مخالفةٍ تبادر إلى التوبة، (( إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكف شهواته عن محارمي ولم يصر على معصيتي ، وأطعم الجائع ـ بذل ـ وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب ... )) .
[ ورد في الأثر ]
كل ذلك لي إخلاصاً .
الأعمال الصالحة من إقامة الصلاة :
دخلنا في موضوع جديد ، كف الجوارح عن الشهوات المحرمة من إقامة الصلاة ، والبذل والتضحية ، وإنفاق المال ، وتقديم الخدمات وتقديم الخبرات ، ومعاونة المؤمنين ، وغير المؤمنين ورعاية اليتامى والأرامل ، وإنفاق المال هذا أيضاً من إقامة الصلاة ، إقامة الصلاة بالكف عن المحارم ، وبالبذل ، كف وبذل الكف سلبي والبذل إيجابي، إذاً حينما قال الله عز وجل :
﴿ وَأَقِمْ الصَّلاة ﴾ .
أنت إذا أردت أن تلقى إنساناً تحرص على لقائه المثمر ، قد تقدم له هديةً ، هديتك إلى الله عز وجل خدمة عباده ، والدليل قوله تعالى :
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
[ سورة الكهف ]
كيف تحتال كي تصل إلى قلب هذا الإنسان بهدية تزيل الضغن من قلبه ؟ كيف تحتال إلى كسب ود هذا الإنسان بتقديم خدمة لأحد أولاده ؟ كذلك إذا أردت أن تعقد مع الله صلةً ، إذا أردت أن تتصل به ، أن تنعم بقربه ، أن يتجلى الله عليك قال تعالى :
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ .
[ سورة الكهف ]
قضية مبذولة لكل الناس ، كل إنسان إذا أراد أن يلقى الله عز وجل لقاءً في أثناء الصلاة فليعمل عملاً صالحاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحد ،. عمل صالح بنية عالية .
(( ليس كل مصلٍ يصلي ، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكف شهواته عن محارمي ، ولم يصر على معصيتي وأطعم الجائع ، وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب كل ذلك لي إخلاصاً ـ عظم الله
وائتمر بأمره ، وتاب من ذنبه ، وبذل ، وضحى مخلصاً ـ وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس ، على أن أجعل الجهالة له حلماً ... )) .
أخلاق الجاهلية التعسف الظلم ، الكبر ، الحقد ، هذه أصبحت مكارم أخلاق ، هذه أصبحت علامة المصلي ، المصلي يجب أن تحبه لابد من أن تذوب به وجداً ، لأنه كامل ، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، إذا أحب الله عبداً في أثناء الصلاة منحه خلقاً حسناً .
((على أن أجعل الجهالة له حلماً ، والظلمة نورا يدعوني فألبيه ... )) .
كان في عمى فأصبح على بصيرة ، كان في جهالة فأصبح على علم .
((يدعوني فألبيه ، ويسألني فأعطيه ، ويقسم علي فأبره أكلأه بقربي ، وأستحفظه ملائكتي ، مثله عندي كمثل الفردوس لا يمس ثمرها ، ولا يتغير حالها )) .
﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ .
[ سورة العنكبوت ]
ما هي الفحشاء والمنكر ؟!
إن الصلاة التي أمر بها الله عز وجل تنهى عن الفحشاء والمنكر ، الفحشاء ما قبح فعله وقوله ، تعريف الفحشاء في اللغة ، الشيء الذي عظم قبحه فعلاً وقولاً ، هناك قول فاحش ، وهناك عمل فاحش ، والمنكر كل شيء أنكرته العقول السليمة ، المنكر ما أنكرته العقول ، والفحشاء ما عظم قبحه كلاماً أو فعلاً ، أول مكاسب الصلاة ، أول ثمار الصلاة ، أول نتائج الصلاة .
من مكتسبات الصلاة :
1 – أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر :
أول مكتسبات الصلاة أنها تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، يصلي إذاً لسانه منضبط .
2 – الانضباط الداخلي :
هنا نقطة ، ومعنى دقيق : أنت قد تنضبط خارجياً ، مثلاً : لو أن إنساناً يحب الغناء ، وسمع أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن سماع الغناء كف عن سماع الغناء ، حينما يكف عن سماع الغناء انضبط خارجياً ، لو أنه ركب مركبة ، وأطلق فيها المذياع على أغنية كان يحبها ، وتجاوبت نفسه مع هذه الأغنية ما الذي يقال في هذا المقام ؟ يقال : إنه انضبط خارجياً ، لكن نفسه بقيت متعلقة بهذا الماضي الذي عاشه ، ولكن المصلي إذا صلى صلاة صحيحة بعد حين ، بعد وقت يطهر من الداخل ، المؤمن في أول طريق الإيمان يشتهي المعاصي ، ولا يفعلها ، ولكن بعد مرحلة من الزمن يمقت المعاصي ، ويكرهها صار هناك تطور هذه من آثار الصلاة ، فإذا فكرت أن الله أمر بكذا ، ونهى عن كذا قضية سهلة ، إذاً لا تفعل هذا الأمر ، يا ترى لا تفعله وأنت مشتاق إليه ؟ لا تفعله وأنت متمنٍّ أن تفعله ، لا تفعله وأنت تغبط من يفعله ، هذه مرتبة .
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ ﴾ .
[ سورة العنكبوت ]
الله عز وجل نهى عن الغيبة ، نهى عن النميمة ، نهى عن الربا ، نهى عن أشياء كثيرة،لكنك إذا اتصلت بالله عز وجل .
هناك شيء آخر ، ما هو الشيء الآخر ؟ أن النفس الإنسانية تنتهي من داخلها الآن ، لا تحب الفحش ، لا تحب هذه المعصية ، قال عليه الصلاة و السلام :
((نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه)) .
[ ورد في الأثر ]
لو أتيح لك أن تفعل هذه المعصية ، ولن تحاسب عليها لتفعلها ، هذه من ثمرات الصلاة ، نفسك تعاف الرذيلة ، تعاف المعصية ، تعاف المنكر ، وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام هذه الحالة ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ )) .
[ مسلم ـ الترمذي ـ النسائي ـ ابن ماجة ـ أحمد ]
من علامة صحة الإيمان أن الله سبحانه وتعالى إذا أنعم عليك بنعمة الإيمان ، وانتقلت من حال إلى حال لا شيء يزعجك ، ويمقتك ، ويحز في نفسك كأن تذكر حياة الجاهلية ، كيف كنت متفلتاً ؟ كيف كنت غير منضبط لا في أقوالك ، ولا في أفعالك ، ولا في شهواتك ، لذلك علامة المصلي أن نفسه تتهذب من داخلها ، لذلك كل حضارة الغرب قائمةً على الردع الخارجي ، وعظمة حضارة الدين أنها قائمة على الوازع الداخلي ، وشتان بين إنسان يرتدع تحت سطوة السلاح .
مثل بسيط ، في بعض مدن أمريكا انقطعت الكهرباء قبل عدة أعوام ، في ليلة واحدة تمت مئتا ألف سرقة ، ما دام هناك ضبط خارجي وكاميرات تلفزيونية ، وحسابات دقيقة ، وأجهزة إنذار مبكر ، وطرق مراقبة كلها بالرادار ، هناك انضباط ، حضارة الغرب كلها قائمة على الردع الخارجي ، وحضارة الدين قائمة على الوازع الداخلي .
قال ابن عمر لأحد الرعاة : بعني هذه الشاة ، قال له : ليست لي ، قال له : قل لصاحبها أنها ماتت ، قال له : ليست لي ، قال له : قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب ، قال له : ليست لي ، قال له : خذ ثمنها ، قال : والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ، أنا في أشد الحاجة لثمنها : ولو قلت لصاحبها : ماتت أو أكلها الذئب لصدقني ، فإني عنده صادق أمين ، ولكن أين الله ؟
هذا هو الدين ، هذا هو الإسلام ، والله الذي لا إله إلا هو من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله ، كلأعماله بلا جدوى ، ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط .
حضارة الغرب قائمة على الرادع الخارجي ، الانضباط السلوكي هناك بسبب أجهزة بالغة الدقة ، لو أن إنسانا تجاوز السرعة المقررة التقطت لسيارته صورة مع لوحته الخلفية ، ودفع الثمن الباهظ جزاء هذه المخالفة ، إذاًلا خير في حضارة قائمة على الردع الخارجي ، ونِعْمَت الحضارة القائمة على الوازع الداخلي ، كلما ارتقينا كلما انتهينا من داخلنا لا من خارجنا ، من دون رقابة ، المؤمن لا يستطيع أن يأكل قرشاً من حرام لو قطعته إرباً إربا ، يقول لك : أين الله ؟ ليس في إمكانه أن يكذب إطلاقاً .
لذلك أيها الإخوة الأكارم ... هذه الآية من الآيات الدقيقة جداً :
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ ﴾ .
[ سورة العنكبوت ]
الصلاة التي أرادها الله ، الصلاة التي شرعت ، التي صلاها النبي عليه الصلاة والسلام ، التي صلاها أصحاب النبي ، صلوها ففتحوا العالم ، ملكوا ما بين الخافقين ، رفرفت راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها ، رفع الله ذكرهم ، مكنهم في الأرض ، استخلفهم في الأرض ، مكن لهم دينهم ، أبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، هذه الصلاة التي شرعها الله عز وجل .
﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ .
[ سورة العنكبوت ]
هذه آية إن شاء الله تعالى لنا عودة إليها في الدرس القادم ، لأنها آية دقيقة جداً ، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ ، أكبر من ماذا ؟ يا ترى ذكر الله لعبده أم ذكر العبد لربه ؟ يا ترى ذكر العبد لربه في الصلاة ، أم خارج الصلاة ، أكبر من ماذا ؟ حول هذه الآية بحث دقيق جداً .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكنني أن أشرحه لكم في الدرس القادم .
لا طاعة في المعصية ، إنما الطاعة في المعروف :
هناك شيء ، أخ كريم حدثني أن رجلاً ديناً في تركيا أمر تلميذاً له أن يقتل ابنه ، خبر تناقلته الإذاعات قبل أيام ، فقتله، ثم قال له : اصعد إلى الجبل تجده هناك ، صعد إلى الجبل فلم يجده ، فقدم شكوى ،
فأودع هذا الرجل السجن ، هذا الخبر استوضحت ، أو تبين لي أن هناك حكم شرعي دقيق جداً في هذا الموضوع .
عَنْ عَلِيٍّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ :
(( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ
لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا ، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا ، فَجَمَعُوا حَطَبًا ، فَأَوْقَدُوا نَارًا ، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرَارًا مِنَ النَّارِ ، أَفَنَدْخُلُهَا ؟
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا ، أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ )) .
[ مسلم ـالنسائي ـ أبو داود ـ أحمد ]
انقسم أصحابه فريقين ، فريق همّ أن يقتحمها تنفيذاً لأمر هذا الأمير ، لأن هذا الأمير أمره رسول الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾
[ سورة النساء ]
وفريق قال : لا ، إنما آمنا بالله ورسوله فراراً من النار ، أفنلقي أنفسنا بها ، واختصموا ، وتوجهوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، اسمعوا ما قال عليه الصلاة والسلام للذين أرادوا أن يقتحموا النار :
((... لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ )) .
أين عقلكم( إنما ) أداة قصر ، الطاعة بمعروف ، إذا أمرك هذا الرجل أن تصلي بالمعروف ، أن تغض بصرك ، أن تؤدي زكاة مالك ، أن تنزه دخلك عن الحرام ، إذا أمرك فيما هو معروف .
وقال بعض العلماء : المعروف هو أمر الله ، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، انظروا إلى الدين ما أوضحه ، شيء رائع جداً أن يكون الإنسان على بصيرة ، قال تعالى :
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
[ سورة يوسف ]
((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ )) .
حصراً .
سيدنا الصديق رضي الله عنه :
ـ ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر .
ـ لو وزن إيمان الخلق مع إيمان أبي بكر لرجح .
ـ ما ساء ني قط .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
(( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ فِي خِرْقَةٍ ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ ،
وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلامِ أَفْضَلُ ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ )) .
[ البخاري ]
ومع ذلك قال : << قد وليت عليكم ، ولست بخيركم ، إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم >> .
رائع جداً أن يكون المتعلم واعياً .
إذاً حينما قال عليه الصلاةوالسلام :
(( إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ )) .
قال العلماء : المعروف هو أمر الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، إذاً لا طاعة بخلاف الشرع ، هذه القصة كانت سبب نزول قوله تعالى الآية :
﴿يَا أََيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ .
[ سورة النساء ]
لهذه الآية تفسير دقيق جداً إن شاء الله تعالى في الدرس القادم بعد صلاة العشاء ، لأنها متممة لهذه القصة التي حصلت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام .
والحمد لله رب العالمين